“قَبَسٌ مِنْ نُورِ القُران”.. تفسير آيات سورة العلق
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
إنها فواتح سورة العلق، أوسورة اقرأ كما اشتهر اسمها بين المفسرين والعلماء، إنها فاتحة عهد جديد في تاريخ البشرية، إنها تعلن للعالمين وليس للبشرية فقط، بل ولكل المخلوقات إيذان نور أشرقت سَبَحاته على وجه البسيطة.
ما أجلَّها من لحظة، لحظة اتصال السماء بالأرض.
الزمان: إنه شهر عظيم، شهر رمضان، بل هو أعظم الشهور عند الله، شهر فرض الله صيامه، و أجزل الثواب لقيامه، وإنها ليلة جعلها الله أعظم الليالي، بل هي خير من ألف شهر، ليلة القدر .
المكان: هو غار حراء والذي اتخذه محمد (النبي الأكرم منذ تلك اللحظة) مكانا للخلوة والتأمل في ملكوت السماوات والأرض، والتعبد في هذا الزمن (الذي ذكر سابقا)، في مكة أم القرى التي حرمها الله جل وعلا، حول بيته المحرم والمعظم: عظمةً وقداسةً وجلالا.
الأفراد: جبريل أعظم الملائكة، والروح القدس، ورسول السماء إلى الأرض، إلى المصطفين من عباده، إلى رسل الله إلى الناس برسالة السماء.
محمد: الصادق الأمين حتى لحظة الاتصال بجبريل، وهو الرسول الأكرم والنبي الأعظم والرسول المجتبى إلى الناس كافة، بل إلى العالمين إنسهم وجنِّهم منذ اللحظة التي غطَّه فيها جبريل للمرة الأولى حتى بلغ منه الجهد وهو يقول له الكلمة الأولى في هذا القران الكريم المجيد والنور المبين: اقرأ.. ويكون الجواب من النبي: ما أنا بقارئ، ثم الغطة الثانية فالثالثة وبعدها يتدفق الوحي، تتدفق كلمات القران من جبريل إلى مسامع وقلب النبي صلى الله عليه وسلم:
اقرأ، ما أعظمها من كلمة يُفتتح بها الوحي من السماء إلى الأرض، يُبتدأ بها نزول القران الكريم.
اقرأ، يخاطب بها رب العزة النبي الأمي، والقوم الأميين، والإنس والجن على لسان نبيه الكريم.
إنها إيذان بعهد جديد للبشرية، عهد قائم على أسس جديدة، لبناء إنسان متكامل يرتقي إلى مصاف الملائكة إن سار على درب النبي، الرسول الأمي الأكرم.
عهدٍ قائم على القراءة والعلم، والخُلُق والبرهان، عهد يخرج فيه الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى العدل الإلهي، و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، عهد الحضارة بعد الجهالة…
ولنتأمل هذه الآيات الكريمات:
“اقرأ بسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق“
“اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم”
“علم الإنسان ما لم يعلم”
فالآيتان الأولى والثانية تتحدثان عن قراءة باسم الله؛
والآيتان الثالثة والرابعة تتحدثان عن قراءة مع الله؛
والآية الخامسة تعقب على القراءتين معا، بأن منَّ الله على خلقه كلهم بأن هداهم وعلمهم ما لم يعلموا.
القراءة باسم الله:
هنا تكون القراءة متوجهة إلى الله من عباده، كل عباده معبرة عن توجه العبد إلى خالقه في كل أحواله وكل أوقاته، في حله وترحاله، في نومه وقيامه، في صحته وسقمه، في جوعه وشبعه، في عطشه وريه، في كل شأن من شئون يومه ومعاشه، هو يقوم به باسم الله، إعلانا منه بفضله عليه ابتداء من الخلق الأول (الذي خلق) حيث كان ابتداء خلق الإنسان (آدم عليه السلام) من الطين ونفخه فيه من روحه (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، ثم استمرار الخلق بعد ذلك من علق في رحم أمه (خلق الإنسان من علق).
فنفخة الروح في الإنسان تربطه بربه، بانسجام كل خلية من جسده بخالقها وموجدها ومدبر أمورها، حيث تكون في أجمل وأبهى وأفضل وأصح أحوالها عندما تسبح وتطيع وتسجد وتعبد ربها، أي تكون باسم الله.
فالله يرعى الإنسان ويحفظه منذ كان علقة في رحم أمه إلى أن يخرج إلى هذه الدنيا رضيعا، فيُلقي عليه محبة أبويه حتى يكبر لتبدأ دورة حياة جديدة..
وهذا يستحق من هذا الإنسان أن يتوجه إلى الله من اللحظة التي يستيقظ فيها من نومه بدعاء يسبحه فيه ويحمده ويتوجه إليه بالصلاة والعبادة، وبدعاء حين يأكل ويشرب، وآخر حين يتحرك ويمشي ويركب ويعمل، فهو يعيش يومه كل يومه إلى لحظة منامه عابدا خاشعا لله، فهو عبد لله، خضعت له جوارحه وسكناته بفعل إيجابي عن استحضار نية خالصة له وحده (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، وبهذا تتحق القراءة باسم الله في أبهى معانيها.
القراءة مع الله:
يوجهنا رب العزة إلى قراءة أخرى، قراءة بمعيته لتحقيق المهمة التي أوكلها للإنسان وهي الخلافة في الأرض (إني جاعل في الأرض خليفة)، ولمساندته في حمل الأمانة التي حملها الإنسان. فالله معنا في عمارة الأرض وحتى نكون قادرين على أداء هذه المهمة، ولهذا فلم يكلنا لأنفسنا نتيه ونتحسس في الدروب دون وسيلة أساسية لازمة لنا فقال: (الذي علَّم بالقلم)، و كانه هنا يرشدنا أنه هو الذي علّم، وعندما يعلّم الله خلقا من خلقه، وأكرم الخلق على الله هو الإنسان (ولقد كرمنا بني آدم) فقد اختصّه بوسيلة عظيمة القدر، بسيطة التكوين سهلة التعلّم، بمستطاع كل إنسان على وجه الأرض، في كل زمان وحتى قيام الساعة أن يمتلك زمامها، ويتقنها، ألا وهي القلم.
والعلم بالقلم يجب أن يقوم على الأساس والقاعدة التي لا تنفك تتكرر في كتاب الله، ألا وهي البرهان والدليل والحجة.
فالعلم الذي تتم به عمارة الكون لا يستند إلى الأوهام والادعاءات والترهات بل عماده الدليل والبرهان.
والله جل وعلا كان يعلم قيمة القلم، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية
في أول سورة من سور القرآن الكريم، هذا مع أن الرسو ل الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم.
والتعلم بالقلم أثمر على مدار تاريخ البشرية علوما شتى، وحضارات عظيمة، ولا يزال يثمر تطورا علميا متخصصا في أدق المجالات التي تخدم االإنسان وتنفعه؛ وأحيانا ما لا ينفع الناس بل ما يفسد حياتهم ومعاشهم ويدمرها كالأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية…
وهنا لنا وقفة، فالقراءة الأولى يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع القراءة الثانية، فإذا استغرق فرد أو جماعة في القراءة الأولى انعزل عن أداء مهمته في عمارة الكون وهذا جنوح عن منهاج القران؛ أما إذا انهمك في القراءة الثانية دون الأولى فهذا سيؤدي إلى تجبر الإنسان وغروره وإفساد معاش الناسوالاستبداد بهم واستعبادهم (قال إنما أوتيته على علم عندي).
والتوجيه الرباني للرسل وللعباد جميعا أن يسيروا بالقراءتين معا. نعبد الله ونعمر الكون والذي هو مخلوق بقدرة الله الذي وضع له السنن والقوانين التي يسير عليها ويصلح بها، وبذلك يكون الكون كله بره وبحره وما حوياه مسخرا للإنسان لتحقيق الخلافة في الأرض.
فالعلماء بشئون الطبيعة والطب وغيرها من العلوم النافعة للإنسان سيجدون أنفسهم في انسجام مع كل ما تحت أيديهم من طاقات ومواد أولية ووسائل والكون كله من حولهم، لأنهم يعيشون وفقا لنفس المنهج الرباني، فالعالِم يسبح الله والكون يسبح لله (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)، وهو كذلك على يقين أن الله سخر كل مقدرات الأرض له لينظر ويكتشف ويبتكر ويخترع ما ينفع الناس. و بذلك فهو لا يعيش صراعا مع القوى الكونية بل حالة سلام ووئام وانسجام.
وهنا نصل إلى الآية الخامسة والتي تجمل القراءتين معا بقوله تعالى: (علَّم الإنسان ما لم يعلم)، علَّمه ما ينفعه ويعينه في ذاته ومعاشه، دنياه وآخرته؛ وهذا كله من خلال القراءتين: الإيمانية (باسم الله) والكونية (مع الله) في تناغم وانسجام تامين يبسطان رداء السلام والأمن والأمان على البشرية جمعاء.
كتابة: الأستاذ محمود برهان