كلمة (سيروا) في القرآن الكريم.. منهج حضارة
وردت كلمة سيروا / يسيروا في القرآن الكريم 14 مرة في 13 سورة حيث تكررت مرتين في سورة غافر
وقد وردت 7 مرات بصيغة فعل الأمر و7 مرات بصيغة الفعل المضارع.
وقد جاءت في كل الآيات متبوعة بحرف الجر (في).
والسير هنا يعني الحركة في الأرض والانتقال من مكان إلى آخر، وقد أشار الشيخ الشعراوي إلى لفتة جميلة لاستخدام حرف الجر (في) وليس (على) ما ملخصه، أن الأرض تشمل بالإضافة إلى اليابسة وما فيها من بحار وجبال: الهواء، والذي هو ضرورة أساسية لكل الكائنات الحية، وبالتالي فالهواء هو جزء من الأرض، وهو يسمى الغلاف الجوي للأرض، ومن هنا ورد حرف الجر (في) لأننا عندما نسير على اليابسة فإننا لا نزال نسير في الأرض، أما إذا أردنا أن نسير على الأرض فهذا يعني أننا قد خرجنا من الغلاف الجوي، وسرنا فوق الأرض (على)، وهكذا جاء الأمر الالهي للسير في الأرض في كل الآيات، ورأى بعض المفسرين أن السير في الأرض يمكن أن يكون من خلال تتبع ودراسة تاريخ الأقوام والأمم السابقة مما تم تسجيله في الكتب، أو روايته إذا تحققت وتأكدت الرواية وليس مجرد أساطير، ولكن الرؤية دائما أبلغ في النفس وأقوى تأثيرا، ورحم الله نبي الله موسى عندما أخبره ربه بأن قومه قد عبدوا العجل من بعده، ثم كيف كانت ردة فعله عندما عاد إلى قومه ورأى بعينيه عبادة قومه للعجل، هنا كانت الصدمة أشد فألقى الألواح التي أنزلها الله عليه، وقول النبي تعليقا على ذلك (ليس الخبر كالمعاينة…)
الآيات هي التالية:
(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (137) آل عمران
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (11) الأنعام
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (69) النمل
بالتأمل في هذه الآيات يمكن أن نصنفها إلى مجموعتين: الأولى استخدم القرآن فيها صيغة فعل الأمر (سيروا) والثانية استخدم فيها صيغة الفعل المضارع (يسيروا) وهي كما يلي:
الأولى: تشمل الآيات: آل عمران 137، الأنعام 11، النحل 36، النمل 69، العنكبوت 20، الروم 42، سبأ 18
الثانية: تشمل الآيات: الروم 9، فاطر 44، غافر 21، / يوسف 109، الحج 46، غافر 82، محمد 10
كما يمكن تصنيفها بطريقة أخرى من خلال عرض الموضوع الذي تتحدث عنه الآيات كما يلى:
أولا: بيان عاقبة المكذبين والمجرمين: آل عمران 137، الأنعام 11، النحل 36، النمل 69
ثانيا: عاقبة السابقين عامة: يوسف 109، الحج 46، الروم 42، محمد 10
ثالثا: عاقبة السابقين الأشد قوة: الروم 9، فاطر 44، غافر 21، 82
رابعا: التفكر في الخلق وإعادته ونعم الله على الناس: العنكبوت 20، سبأ 18
وسنعالج في هذا البحث الآيات من خلال التصنيف الثاني حيث سنتحدث عن الموضوعات التي تطرقت لها كل مجموعة من الآيات وبالله التوفيق.
أولا: بيان عاقبة المكذبين والمجرمين:
هذه الآيات تحث الناس على السير في الأرض للتفكر والاعتبار مما حاق بالمكذبين والمجرمين في مواجهتهم مع الرسل وأهل الحق، وأن هناك سننا وقوانين تحكم مسيرة البشرية لا تتخلف ولا تتبدل.
ومع سورة آل عمران الآية 137 (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
تبدأ هذه الآية بالحديث عن مضي السنن، والفعل خلت يعني مضت وسبقت في الأزمان السابقة، أي أنه قد مضت السنن في الأقوام السابقين والتي قضى الله بها وأوجدها في هذا الكون عند خلقه له، فله نواميس وقوانين تحكم سيره ومسيرته ومسيرة كل المخلوقات في الأرض والسماء.
والسُنًنُ جمع سُنَّة وهي الطريقة والمثال المتبع، والتي لا تتبدل ولا تتخلفـ، لأنها من الله جل وعلا، وهذا أمره وحكمه وعدله. والحديث عن السنن بالتفصيل يحتاج إلى بحث خاص بها، لإحصاء جوانبها المتعددة، ونشير إليها هنا باختصار يتناسب مع الحديث عن السير في الأرض وهو موضوعنا في هذا البحث.
هذه السنن قد مضت في الأمم السابقة والتي تتعلق بالمواجهة بين الحق والباطل، بين الرسل وأتباعهم وبين أقوامهم، هذا الصراع الممتد من لدن آدم والمستمر إلى قيام الساعة، فقد بدأ بإغواء إبليس لآدم وزوجه واستمر بعده، فكلما طال العهد بالناس ابتعدوا عن طريق الهداية و فشا الظلم بينهم، وعبدوا من دون الله أسماء سَمَّوْها، وأصناما صنعوها، واتخذوا من دونه آلهة، فيبعث الله لهم رسلا بالهداية والرشاد، بالتوحيد، بالإيمان به وحده وترك الأوثان، ويأمرهم باتباع الرسل والأخذ بالشرائع التي ينزلها إليهم، ولكن في كثير من الأحيان تأبى الأقوام قبول ما جاء به أنبياؤهم، ويصروا على الشرك وعلى محاربة الرسل، فتكون العاقبة على هؤلاء المكذبين، فيأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ويحيق بهم الهلاك والدمار، ولا يبقي منهم أحدا، وينجي الله الرسل ومن أمنوا معه برحمة منه، هذه هي السنة، هذه هي القاعدة التي لم تتخلف مع الأقوام السابقة، منهم من هو قريب عهد بكم ومنهم من تعرفون ديارهم، فأنتم تمرون عليهم في طرقكم وأثناء أسفاركم، ومنهم من سترون مصارعهم بأعينكم، فما عليكم إلا أن تسيروا في الأرض، (َفَسِيرُوا) والخطاب هنا لكل الناس للمؤمن والكافر، للمُوحِّد وللمشرك لأهل الكتب السماوية ولغيرهم، لأهل ذلك الزمان الذي تنزل فيه القرآن ولكل زمان بعده، لأهل الجزيرة العربية والعالم القديم ولكل من وصله القرآن في كل الأرض إلى يوم القيامة، فأما أهل الإيمان فيزدادون إيمانا واطمئنانا، وأما الآخرون فللاعتبار وللوصول لطريق الإيمان، أما إن أبوا فسيحل عليهم العذاب والعقاب وفقا للسنة الإلهية.
والفاء في كلمة فسيروا هي الفاء الفصيحة والتي تدخل في جواب الشرط غير الجازم والمقدر هنا: إذا لم تصدقوا بما أخبركم به من وجود السنن في الأمم السابقة فسيروا في الأرض ، والقرآن الكريم قد ذكر بعضا من الأقوام مثل، عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط، وفرعون… فسيروا في الارض، وخذوا العبرة مما حل بهذه الأقوام الذين ترون آثارهم بأم أعينكم، وبعد أن تروا بأعينكم ما حل بهم فأعملوا عقولكم وفكركم للاعتبار والتدبر، فلا يحل بكم العذاب إن بقيتم على كفركم وشرككم، فسسن الله لا تحابي أحدا ولا تتبدل أبدا.
وتواصل الآية 11 من سورة الأنعام (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الحث على السير في الأرض للتدبر في آثار الأقوام السابقة والاعتبار مما حاق بهم.
تأتي هذه الآية في سياق الآية السابقة لها والتي جاءت في سياق المواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن ما يلاقيه من سخرية المشركين واستهزائهم به هو ما واجه الرسل من قبله، فكانت عاقبة المستهزئين المكذبين أن أخذهم الله جزاء وفاقا، فهذه سنته التي سارت فيمن سبق من الأقوام، وهي لن تتخلف عن الساخرين من قومك، المكذبين بنبوتك، فعظهم قبل أن يصيبهم ما أصاب من يرون ديارهم في حلهم وترحالهم، وقل لهؤلاء الساخرين من قومك سيروا في البلاد، وأنتم تفعلون ذلك، في رحلاتكم في تجارتكم صيفا وشتاء بين الشام واليمن، وأمامكم كذلك كل الجزيرة العربية وماجاورها من البلاد، ومن االارض، فلا تمروا عليها مرورا عابرا، بل انظروا مليا وتفكروا (ثم انظروا) تدبروا واعتبروا مما ترون أمام أعينكم من الديار الخالية وماذا حل بأهلها ولماذا؟ ولكنَّ محمدا هو الرحمة المهداة، البشير النذير، (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فقد اختصه الله بخلال لم يعطهن نبي قبله، ومنها أن لا يحل الهلاك بأمته ولا بقومه، فكان من رحمة الله أن يهلك الذين سخروا من الرسول خاصة وليس القوم عامة، وكانوا من عتاة قريش، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وآمن الآخرون بعد فتح مكة.
ونواصل مع سورة النحل الآية 36 (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
فبعد أن كان الخطاب عاما في سورة آل عمران من الله عز وجل، ثم كان الخطاب من النبي الكريم لقومه وللناس من بعدهم، تأتي هذه الآية من سورة النحل لعرض جانب من التفصيل للمسار الذي أوصل المكذبين للعاقبة التي استحقوها من الهلاك، وبقاء الآثار للعبرة وللعظة لمن بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة. فكما أسلفنا سابقا فالبداية من لدن آدم والاستعدادات التي وضعها الله في ذريته للطريقين الهداية والضلال (وهديناه النجدين)، ومع الزمن يزيد طغيان الضلال على الهدى بسبب من اختيار الناس واستجابتهم لغواية الشيطان، حتى تغلب الجهالة والضلال علىهم ويزيغون عن الهدى والرشاد، وهنا تتدخل العناية الإلهية العادلة الرحيمة بعباده، ويبعث الرسل لأقوامهم، والبعث يوحي بوجود الشيئ ولكن تراكمت عليه طبقات وطبقات من أدران الكفر والشرك، والظلم والطغيان، وقمة هذه جميعا تتمثل بالطاغوت، فالله جل وعلا يبعث الرسول في الأمة لكي يذكرهم بالجذور الإيمانية فيهم، وأن ما هم فيه هو انحراف عنها، وتكون المهمة الأساسية للرسل تتعلق بجانبين من حياة الأمة: الجانب الأول وهو الأساس والقاعدة التي يبنى عليها الجانب الثاني هو التوحيد، (َأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) وهو الأساس الذي يبنى عليه الدين كله، ودين الرسل جميعا هو الإسلام (إن الدين عند الله الإسلام)، فدعوة الرسل جميعا لأقوامهم تبدأ بالتأكيد على وحدانية الله، وترك الشرك بكل صوره التي يكون عليها الأقوام، ومن ثَمَّ تأتي المعالجة للقضية التي تسود في تلك الأمة سواء كانت سياسية، أو اقتصادية أو اجتماعية، هي كلها تعود لأساس واحد يجمعها: الطاغوت، فتكون المهمة الثانية للرسول في أمته هي المواجهة مع الطاغوت، ودعوة الناس لترك الطاغوت والابتعاد عنه (اجتنبوا) أما البديل فهو دين الله، شريعته، أحكامه العادلة الرحيمة بهم، ويمكث الرسل في أممهم ردحا من الزمن بمشيئة الله، يقومون بالمهمة التي كلفهم الله بها خير قيام، وأمام هذه الدعوة تنقسم الأمة إلى قسمين: القلة التي تختار الإيمان بالله واتباع الرسل، فيشملهم الله بهدايته، ويعينهم عليها (هدى الله) وأما الكثرة فتختار طريق الغواية والضلال، والكفر ومعاندة الرسل ومحاربتهم والسخرية منهم، فيستحقون بذلك كله الَترك لأنفسهم (حقت عليه الضلالة) وحق عليهم الجزاء والعقاب من الله على الكفر والعناد، وكانت النهاية: النجاة للرسل وللمؤمنين، والهلاك للمكذبين الضالين، فيا أيها الناس سيروا في الأرض وانظروا بأعينكم وفكروا بعقولكم واعتبروا بقلوبكم من آثارهم وأخبارهم.
ومع سورة النمل الآية 69 (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) وقد جاءت في سياق حديث مشركي مكة عن البعث في الآخرة، و اعتباره من أساطير الأولين، وتكذيبهم للقرآن، فكان الرد من الله تعالى أن قل لهم يا محمد (صلى الله عليه وسلم) سيروا في الأرض للنظر في آثار المجرمين الذين سبقوكم بتكذيب رسلهم، والهلاك والعذاب الذي حل بهم نتيجة لذلك، فاعتبروا وعودوا إلى رشدكم قبل أن يصيبكم ما أصابهم.
وقد وصف القرآن المشركين المكذبين بالمجرمين من كثرة المظالم والأعمال السيئة وأعمال الشرك والمعاندة والمحاربة للرسل وللمؤمنين، وأصل الكلمة: الجرم وهو قطع الثمار عن الشجر، وتستخدم لكل من عَمِل الأعمال السيئة.
ثانيا: عاقبة السابقين عامة: يوسف 109، الحج 46، الروم 42، محمد 10
فالآيات تتحدث إجمالا عن الأمم السابقة مع بيان النتيجة المترتبة على من آمن وعلى من كفر، مع دعوة الناس للسير في الأرض والنظر في أحوال هذه الأمم، مع الإخبار عن عاقبة الفريقين في الآخرة: المؤمنين والكافرين، وما على الناس إلا أن يعملوا عقولهم ويوازنوا الأمور ويستخلصوا النتائج، فما زال في الزمن بقية لمن أراد أن يعتبر.
ومع سورة يوسف الآية 109 (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) والخطاب في هذه الآية من الله للنبي الكريم، حتى يسري عنه ويخفف عنه مما يعانيه من المواجهة والعناد من كفار قريش، فمطالبهم لك بأن يكون الرسول إليهم ملكا، أو تأتي معك بالملائكة، فهذه ترهات لا يستقيم معها منطق عاقل، ولا تفكير سليم، فلكل خلق قوانين حياته ونواميسها مما لا تتناسب مع الخلق الآخر، ولكلٍ مهمته في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، فالبشر لا يصلح أن يكون الرسول لهم إلا بشرا، يعرفونه، والرسل دائما من الرجال، والله هو وحده من يجتبيهم ويصطفيهم من بين عباده، لعلمه المطلق بأنهم خير أهل القرية التي أرسل إليها، والمنطق السليم يقول أن المُرْسِلَ (وهو الله) هو من يختار رسوله (النبي) وليس لأحد كائنا من كان أن يعترض على ذلك، فإذا جاز ذلك في حياتكم أنتم، فكيف برب الأرباب؟ ولله المثل الأعلى. وأنت يا محمد لست بدعا من الرسل الذين سبقوك لأقوامهم (أهل القرى)، وهنا لفتة طريفة، فلم يكن هناك نبي أبدا من أهل البادية، بل كلهم من أهل القرى لما يتميزون به من سماحة الخلق، وسعة الأفق، ورجاحة العقل والفكر، بعيدا عن غلظة وضيق أفق أهل البوادي، وتكون الرسالة بإرسال الوحي إليهم كما يشاء الله، فهذه سنته في السابقين، والخطاب الآن يتحول إلى أهل قريش، ومن يأتي بعدهم، بسؤال فيه ما فيه من التوبيخ على هذه الحركة والسير في الأرض الذي يمارسونه باستمرار، صيفا وشتاء، فكيف لم ينظروا ويعقلوا ما حدث للأمم السابقة التي يمرون على ديارهم ويعرفون أخبارهم، فبيوتهم خاوية مما حل بهم من الهلاك والدمار بسبب كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، وهنا أيضا بلاغة جميلة مما يسمى حذف الاحتباك كما يبينه الشيخ الشعراوي، حيث بيَّن القرآن في الآية مصير المكذبين (الدمار والهلاك) وحذف مصير المؤمنين (وهو النجاة)، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فذكر جزاء المؤمنين المتقين (الجنة) وأنه خيرٌ من جزاء وعقاب المكذبين الضالين (النار)، وشتان بين الدنيا الفانية وبين الآخرة الباقية، وشتان بين النجاة والهلاك.
أما سورة الحج الآية 46 (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور).
تأتي هذه الآية تعقيبا على الآية السابقة لها (45) والتي كانت تُعَقِّب على الآيات التي سبقتها من ذكر مصارع الأمم السابقة، وتختصر مشاهد هلاكهم، فقد كان ذلك جزاء مستحقا من الله تبارك وتعالى على ظلمهم وتكذيبهم لرسلهم، فتلك بيوتهم خاوية على عروشها، ساقطة سقوفها بعد هلاك أهلها، وهذه الآبار التي كانت يوما عامرة، يردها الناس، وتزين أراضيهم بالخيرات، فهي مهجورة اليوم وقد غار ماؤها، أما قصورهم فقد خربت بعد عمرانها بأهلها. تأتي هذه الآية للتوبيخ والتقريع للمشركين من خلال سؤال استنكاري باستخدام الفعل المضارع المنفي بلم والذي يفيد الزمن الماضي، بمعنى أنهم قد ساروا فعلا، وقد مروا بهذه الأماكن سابقا، وربما مرات ومرات، فهي قائمة في طريق رحلاتهم صيفا وشتاء (كما أشرت سابقا)، فما الذي ينبغي عليهم فعله حال مرورهم بهذه الديار الخَرِبة التي هلك أهلها؟ والتعبير هنا جميل ومعجز ويحتاج إلى مزيد تأمل وتدبر؛ والذي أراه أنه كما تمت الإشارة في تفسير الآية 109 من سورة يوسف أعلاه، فها هنا أيضا حذف احتباك في قوله تعالى (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) هنا حذف لحاسة الإبصار (العيون المبصرة) لأنها المدخل الأول لإدراك ما حولنا، حيث تنتقل الإشارات العصبية من العين إلى مراكز الإبصار في المخ، لتبدأ عملية الفهم والربط والعقل من خلال كل الخبرات السابقة والمعارف الكائنة المختزنة، ليصل الإنسان إلى النتيجة، أن ما يراه في هذه الديار هو بسبب التكذيب للرسل، وبسبب الكفروالعناد والكِبْر، ومن ثم يصلون إلى الإيمان بالله والطمأنينة إلى ذكره تعالى فتخشع القلوب، وتستكين وتطمئن، ثم إذا كنتم لا ترون أو عميت عيونكم أو أنكم لعنادكم تقولون أننا نسير ليلا فلا نرى شيئا، يأتي قوله تعالى (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) فستسمعون الأصوات التي تدلكم عند مسيركم فيها أنها موحشة مقفرة، فلا عذر لكم لتقولوا أنكم لم تروا، فأنتم تسمعون كذلك أخبار هذه الأمم، ثم يأتي الجزء التالي من الآية (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) ليدل على الحذف الذي أشرت إليه آنفا، ويأتي بعد ذلك الحديث عن عمى القلوب (وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) والذي يشمل العيون والآذان، وهنا حذف للآذان. بمعنى أنه حتى لو رأيتم وسمعتم فإن عملية العقل لا تعمل كما يجب أن تعمل، لأنكم طمستم الفهم والإدراك والمنطق السليم والفكر الصحيح بموانع التدبر والاعتباروالحكمة، وهي الكبر والعناد واستعباد النفس للآباء والأجداد، وبالتالي فلم تصلوا إلى الإيمان بالله ولا باليوم الآخر، وأبيتم اتباع الرسل.
ولكن ما هي العلاقة الممكنة بين هذه العملية المعقدة من العقل والفكر وبين القلب الذي في الصدر، حتى يعبر القرآن الكريم في أكثر من موضع عن عمى القلب، أقفال على القلب، غلظة القلب، غفلة القلب، مرض القلب، الختم على القلب، الطبع على القلب، قسوة القلب،لهو القلب، زيغ القلب، وفي مقابلها خشوع القلب، اطمئنان القلب، سلامة القلب، وجل القلب، لين القلب؟؟ هي مواضع كثيرة وكل منها يتناسب مع السياق القرآني وموضوع الآيات الواردة فيه.
من المعلوم لدى من درس علم وظائف الأعضاء في كليات الطب والعلوم الحياتية أن الجهاز العصبي عند الإنسان يتكون من قسمين رئيسيين: الإرادي واللاإرادي:
وسأعرض الآن للجزء اللاإرادي: فهو يتكون من جزئين أيضا: السمباثاوي والجار- سمباثاوي، وهما يعملان بشكل متعاكس ومتوازن، فالأول يكون أكثر نشاطا في الحالات الطارئة والعاجلة، والثاني أكثر نشاطا في حالات السكون والهدوء والطمأنينة، وهما يتحكمان في عمل الأجهزة الداخلية للجسم مثل الجهاز الدوري والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والبولي، ومن الواضح أن القلب هو المركز لكل أجهزة الجسم، وهو الذي تتوقف عليه حياة الإنسان، حيث لا تعلن الوفاة إلا بعد توقفه عن العمل. وهو كذلك الأكثر تعبيرا عن الحالات المختلفة للإنسان من الأجهزة الأخرى، بحيث تظهرآثار المشاعر المختلفة التي يمر بها الإنسان من القلق أو الاضطراب، أو الخوف أو الفرح أو الحزن، الحب أو الكره…. فترى القلب وقد زاد وجيبه، وتزداد نبضاته، ويشعر أحيانا الإنسان وكأن قلبه سيقفز من صدره من شدة التأثر بشيئ ما، وليس هذا فقط فإن الأوعية الدموية تتأثر كذلك فتتوسع ويزداد تدفق الدم إليها، فيزداد الوجه احمرارا.. كل هذه التغيرات تحدث من خلال التغيرات على الجزء السمباثاوي من الجهاز العصبي، والذي هو تحت التحكم من أجزاء في المخ، تتأثر بدورها بالمشاعر المختلفة والأحداث التي يمر بها الإنسان من خلال المدخلات التي تصل إليه من الجوارح المختلفة (كالسمع والبصر ..)
وهنا يأخذنا الحديث عن حالتين متناقضتين من المشاعر واللتين تؤديان إلى طمأنينة القلب أو قسوة القلب:
أولا: طمانينة القلب: وقد عبر عنها القرآن بتعبيرات مختلفة منها: خشوع القلب، سلامة القلب، الربط على القلب، وجل القلب، بصيرة القلب.
ثانيا: قسوة القلب: وقد عبر عنها القرآن بتعبيرات مختلفة كذلك: عمى القلب، الغلظة، الغفلة، المرض، الطبع على القلب، الختم على القلب، الزيغ، اللهو، أقفال على القلب.
في الحالة الأولى، فإن كل المدخلات السمعية والبصرية والحسية تصل إلى عقل منفتح، باحث عن الحقيقة والحق، فيصل إلى الإيمان بالله، ومع مزيد من الفكر والتدبر من خلال المزيد من المدخلات، وبالتأمل في الكون والنفس، والسير في الأرض، تصل الإشارات إلى القلب ويتأثر بها ويتفاعل معها بحيث يصل إلى أرقى حس مرهف، ثم يبدأ بالهدوء حتى يصل إلى استقرار اليقين بالله، فيحدث التناغم والانسجام بين إيمانه بالخالق، وبين جسده المخلوق، ويصل إلى الرضى بكل ما يصيبه من خير أو غيره، وهنا يكون القلب دائما هادئا ساكنا خاشعا مطمئنا، وحينئذ تصدق على هذا القلب كل الصفات التي مدحه الله بها، وفي النهاية هو قلب مطمئن بصير.
أما القلب القاسي فهو على النقيض، فبسبب من الأنا (الغرور) والكبر والعناد فإن صاحبه يغلق العقل والفكر عن كل المدخلات، وذلك بقصد وتعمد، فلا يصل إلى الإيمان بالله، ويبقى على الكفر والشرك، فلا يتأثر القلب من أي من المؤثرات الخارجية ويصبح مع مرور الزمن واستمرار نفس الحالة غليظا، مغلفا بطبقات متزايدة من الأدران والنكات السوداء (كما جاء في الحديث النبوي الشريف)، وتزيد الأغلال والأقفال حتى يصبح قاسيا، بل أشد قسوة من الحجارة، فلا ينكر منكرا مهما عظم، ولا يعرف معروفا مهما صغر، فهو قلب أعمى البصيرة.
فالقلب هو محل التأثر بكل ما يدور في فلك المشاعر ووالأفكار والوجدان الإنساني، وهو ما يشعر به الشخص نفسه و كذلك يلاحظه عليه من يعيش معه، ويتعامل معه، وهو الإشارة الأولى على حياة الجنين في بطن أمه، وهو الإشارة الأخيرة على انتهاء الأجل، ومن هنا كان التعبير القرآني عن كل دقائق الإيمان والكفر بأن محلها القلب، واستحق بذلك كل الصفات التي وصفه بها الله في كتابه العزيز. فسبحان الله العليم القدير، الحكيم الخبير.
ومع سورة الروم الآية 42 (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ)
وتأتي هذه الآية في نفس السياق الذي تم شرحه في الآيات السابقة، إنها دعوة لمشركي قريش للسير في الأرض والنظر للاعتبار بما حاق بمن سبقهم من الأمم والأقوام التي يمرون على ديارهم في رحلاتهم بين القرى، ومن لم يكن يخرج في هذه القوافل، فليفعل، وتفكروا فيما حل بهم من الهلاك والدمار جزاء كفرهم وشركهم، والذين من قبلهم (كما تم بيانه سابقا) انقسموا على أنبيائهم بين قلة قليلة مؤمنة، وكثرة كاثرة مشركة معاندة محاربة للرسل، وفي ختام جولة المواجهة والتي يقرر الله تعالى موعدها وليس الرسل، تكون النجاة للرسل وللفئة المؤمنة، والخزي والدمار والهلاك للكثرة المشركة (كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ)، فهذا هو الجزاء العادل من الله، فاعتبروا قبل أن يحل بكم ما حل بالأقوام ممن سبقكم.
وختام هذه المجموعة مع سورة محمد الآية 10 (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) حيث يتوجه القرآن بالاستهجان والاستنكار من هؤلاء الذين ساروا مرات ومرات بسبب عدم أخذهم العبرة مما شاهدوه من أحوال الغابرين، الذين دمر الله عليهم بيوتهم وديارهم وأموالهم، وفي التعبير بجملة (دمَّر الله عليهم) من الإرعاب والوعيد الشديد للمشركين والكفار من مصير كمصير السابقين إن لم يرعووا ويعودوا إلى الله تائبين مما هم فيه من الشرك والضلال، فسيروا فانظروا واعتبروا وآمنوا بالله يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة برحمته.
ثالثا: عاقبة السابقين الأشد قوة: الروم 9، فاطر 44، غافر 21، 82
وتأتي هذه المجموعة من الآيات لتعرض جانبا آخر من مشهد مصارع الأمم الغابرة، لمزيد من أخذ العبرة من جانب المشركين الحاليين الذين يرفضون دعوة الرسول الكريم. فالقرآن هنا يبرز جانبا مما كان عليه السابقون من القوة والتمكين في الأرض، وامتلاك فنون العمارة، وبقائهم في ملكهم زمنا طويلا مقارنة بما كان عليه أهل مكة مع كثرة المال والولد، فأين أنتم منهم، وأنتم بواد ليس فيه من العمارة إلا القليل القليل، وهو غير ذي زرع، وأنتم لستم بأهل قوة مقارنة بهم، فانظروا إلى مصارعهم وهلاكهم ودمار عمرانهم، فأنتم أهون على الله منهم، فآمنوا خيرا لكم.
ومع الآية 9 من سورة الروم (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
هنا التأكيد مرة أخرى على أهمية السير في الأرض للنظر والاعتبار لكسر حلقة الإلف والعادة من الأسفار المجردة دون تأمل في كل ما تقع عليه عيناك وما تسمعه أذناك عن الأقوام السابقة، والإضافة في هذه الآية هي المقارنة بين حال أهل مكة وحال السابقين، فقد كانت هذه الأمم أشد قوة، وتنكير القوة هنا لتترك لخيالهم تصور مقدارها وأنها أكبر مما يتخيلون، فالذي يصفها بالشدة هو الله، وكانوا أكثر تمكينا في الأرض واستقرارا فيها من خلال قدرتهم على فنون الزراعة واستصلاح الأرض، والمن عليهم بالثمار والجنان المختلفة والزروع الكثيرة (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا)، وكانوا قادرين على عمارة الأرض وبنائها -ومثالا على ذلك- (إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد)، ورغم ذلك لم يشكروا النعم التي منحهم الله إياها فكفروا، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله لهم الرسل رحمة بهم، مؤيدين بالآيات البينات المعجزات ليعودوا عن غيهم وضلالهم، ولكنهم أبوا، وصموا آذانهم، (..جعلوا أصابعهم في آذاناهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)، هذا ديدن المشركين، فما هي العاقبة؟ لقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وهو العادل، فلا ظلم عنده، (ولا يظلم ربك أحدا) إنما هو ظلمهم لأنفسهم بإصرارهم على الكفر والفساد والطغيان.
وفي سورة فاطر الآية 44 (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) وفي هذه الآية يشير القرأن إلى جانب واحد من الفرق بين السابقين ومشركي مكة (أشد قوة) ولكن التعقيب على تدمير الكفار هو الذي اختلف عن الآيات السابقة، فالمولى عز وجل يقول لكل الكفار والمشركين على مدار التاريخ، السابقين والحاليين (وقت نزول القرآن) واللاحقين إلى قيام الساعة، يقول لهم اعلموا أنه ليس من المتصور على الإطلاق (وليس فقط أنه ممكن على الحال) أن يكون هناك أي شيء في السماوات أو في الأرض، والتعبير هنا ب (مِن شَيْءٍ) لكي يقول لنا: لا شيء مهما صغر أو عظم سواء في السماوات أو في الأرض يمكن أن يعجز الله، وكيف يمكن تصور ذلك وهو خالقهما وما فيهما، وهل يُعْجِز المخلوق الخالق؟ (ما لكم كيف تحكمون)؟ والتعقيب الأخير هو التأكيد على علم الله المحيط بكل شيء فلا يعزب عنه شيء، والعلم يقتضي القدرة على كل شيء، وهكذا جاءت الصفة الثانية (قديرا)، فالعلم دون قدرة هو مزيد من الضعف، ولكنه الله العليم القدير.
أما سورة غافر الآية 21 (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) فإنها تعرض جانبا آخر من مصارع الأمم السابقة وتصف بعضا مما أعطاهم الله من شدة البأس والقوة، ومن العمران والجوانب الحضارية التي تمتعوا بها مما بقي آثارا في الأرض يراها الناس من بعدهم، والتي تشهد على نعم الله عليهم، ولكنهم عاندوا رسلهم وتركوا أوامر ربهم، وهذا مما تشير إليه كلمة (بذنوبهم) وهي المعاصي التي يرتكبها الناس بعد أن تأتيهم رسلهم ببيان ما يجب عليهم فعله وما يحرم عليهم فعله، أي بشريعة ربهم، فارتكبوا الذنوب وأصروا عليها، وأكبر الذنوب الشرك بالله، فلم تنفعهم قوتهم ولا حضارتهم، ولا أسباب تمكنهم في الأرض، فليس لهم من الله من عاصم ولا واق. (وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). فاعتبروا أيها الناس وأنيبوا إلى ربكم من قبل أن يأتيكم عذاب أليم.
أما الآية 82 من سورة غافر وهي الأخيرة في هذه المجموعة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون) فتعطينا صورة مشابهة للآية السابقة أعلاه مع زيادة أن السابقين كانوا أكثر عددا منهم، وهذا كان سببا في أنهم كانوا أكثر كسبا للرزق وأسباب القوة والمنعة، فهل كان هذا سببا في امتناعهم من عذاب الله عندما استحقوه بسبب كفرهم وعنادهم ومعاصيهم وفسادهم في الأرض؟ إنه لم يغن عنهم شيئا، فأخذهم الله بما اقترفوه من الذنوب والآثام، فانظروا إلى مصارعهم وآثارهم، وخذوا العبرة من ذلك، فأنتم أهون على الله وأضعف منهم، فإن ما أصابهم سيصيبكم إن سرتم على طريقتهم في الكفر والعناد.
رابعا: التفكر في الخلق وإعادته ونعم الله على الناس: العنكبوت 20، سبأ 18
في الآية 20 من سورة العنكبوت (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)
يوجه القرآن الكريم أنظار الناس للتأمل والتدبر في الأرض من حولهم، من خلال السير فيها كما قلنا سابقا للخروج من الإلف والعادة مما يرونه دائما في أماكنهم التي يعيشون فيها، والهدف هنا هو الوصول إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وبالبعث والنشور، فمن خلال السير في الأرض والتأمل في المخلوقات، نباتها وحيوانها وطيرها، ما هو كائن أو ما مضى منها بآثارها التي تدل عليها، بحفرياتها التي ترونها، بتنوعها، إنه خطاب عام لكل العصور، لأنه كتاب الله لكل الناس إلى قيام الساعة، فمهما اختلفت المعارف والعلوم من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، إنها نفس الحقيقة، انظروا قصة بدء الخلق وستعلمون منها أن الذي بدأه قادر على إعادته وهو أهون عليه، فهو القادر على كل شيئ، ولا يعجزه شيئ في الأرض ولا في السماء، فهوخالق كل شيئ، وهو السميع البصير.
أما الآية 18 من سورة سبأ (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) فهي تذكر جانبا من النعم التي أنعمها الله على أهل سبأ، حيث جعل بينهم وبين القرى المبارك فيها (مكة وبيت المقدس) قرى متقاربة يجدون فيها كل ما يجعل أسفارهم من وإلى القرى المباركة سهلا ميسرا، رفيقا آمنا، فهم لا يكادون يمضون يوما في سفرهم إلا وتلاقيهم بلدة آمنة، يستريحون فيها، وكذا ليلها آمن، وهذه من أكبر النعم التي يتمناها الناس، الأمن والأمان في الحل والترحال، ولكن يذكر القرآن بعد ذلك أنهم استكبروا ورفضوا هذه النعمة فيما تلا ذلك من الآيات فحل بهم العقاب جزاء وفاقا.
ونرى في هاتين الآيتين أن الله يوجه الناس للسير في الأرض ليتأملوا مخلوقات الله للوصول للإيمان به سبحانه، وليذكر الناس بنعمه عليهم وكمثال على ذلك قوم سبأ، وهناك بالتأكيد غيرهم ممن لم يقصصهم الله علينا، حتى يمن عليهم بالرحمة والمغفرة، ولكن كثيىرا من الناس لا يتفكرون ولا يشكرون المُنعم، فيظلمون أنفسهم، فيحق عليهم العقاب الأليم في الدنيا والآخرة، بعدل منه سبحانه، بعد أن أقام عليهم الحجة البالغة من خلال إرسال الرسل والأنبياء لهم، وبيان سبيل الهدى ودعوتهم إليه، وطرق الشيطان وحضهم على البعد عنها. فهو الغفور الرحيم وهو شديد العقاب.
ونتحدث الآن عن بعض الآيات التي وردت فيها كلمات مشتقة من الجذى (سير) وهي أفعال مثل (يُسَيِّر، سُيِّرَ، نُسَيِّر، تَسٍير)، والتسيير فيها هو من الله تعالى سواء للناس كما في الآية 22 من سورة يونس، أو للجماد (خاصة الجبال) للرد على المشركين أو كمظهر من مظاهر اليوم الآخر الكبرى:
فالآية 22 من سورة يونس (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) تتحدث عن بعض النعم التي أنعم الله بها على الناس من تسخيير كل ما في البر (مع الغلاف الجوي) والبحر لتسهيل حركة الناس وانتقالهم من مكان إلى مكان، فعِلْم الإنسان بكل القوانين التي تحكم الحركة في البحار أو الأنهار هو مما فتح الله به على الإنسان، وكذلك تمهيد الأرض وسهولة الحركة فيها وفي غلافها الجوي حديثا هو مِنَّة من الله على الإنسان، ومع ذلك فإنه يغفل عن شكر هذه النعم، فيفرح ويبطر ويتصور أن كل ما وصل إليه هو على عِلم عنده، وتأتي هذه الآية لتصور جزءا من الضنك والضيق الذي يمكن أن يواجهه الإنسان، والمثال هنا ضربه الله للسفر في البحر، فإذا هاج البحر وأحاطت الأمواج بأي سفينة مهما ضخمت (وعبر عنها هنا بكلمة الفلك) ولعبت بها العواصف العاتية، فلمن تلجئون؟ لله داعين بإخلاص أن ينجيكم من هذا الكرب، أليس كذلك؟
أما الآية 31 من سورة الرعد (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) فنزلت للرد على الشبهات التي أثارها مشركو مكة حول معجزة القرآن، وطلبهم أن تتحرك الجبال عن مكانها فتتسع مكة لهم، وتزيد مساحتها، أو يُحيي به الموتى، فجاء الرد من الله عليهم أنه لو رأوا كل هذه المعجزات، فلن يؤمنوا، إنه الكبر والعناد لا أكثر، فالقرآن هو وحده المعجزة الخالدة المحفوظ بحفظ الله له، فلا تكترث يا محمد لهم، وواجه به المشركين جميعا، فنصر الله آت وهو قريب، وكان وعده مأتيا.
أما الآيات التالية فكلها تعرض لأحد المشاهد الكبرى ليوم القيامة، وهو حركة الجبال وزوالها وسيرورتها سرابا والتغيير الذي يصيب الأرض والمظاهر الكونية الأخرى كما في قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (47) الكهف
(وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) (10) الطور
(وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) (20) النبأ
(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) (3) التكوير
والمنهج الحضاري في هذه الآيات يتعلق بالدراسة التحليلية للتاريخ، فمن المعلوم في علوم الاجتماع أنَّ مَن لا ماضي له لا حاضر له، ومن َلا حاضر له لا مستقبل له، وتارخنا زاخر بالأحداث العظام التي ينبغي لنا أن ندرسها عميقا دون قداسة ودون تحقير أو تهوين، وذلك لاستخلاص العبر، فهذا ما ينبغي أن يكون ممن يعزم العزم الأكيد على النهوض من جديد، وبناء الحضارة من جديد، والتي أشرقت على ربوع الأرض زمنا طويلا، والأمر القرآني للبحث في التاريخ لا يتعلق فقط بالتاريخ الإسلامي (منذ بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم) ولكن بتاريخ البشرية كلها من آدم عليه السلام إلى حاضرنا اليوم. فهذا ما تُوجهنا إليه الآيات الكريمة التي استعرضنا جزءا من آفاقها التي مَنَّ الله علي بها، فإن وفقت فمن الله وإن زللت فمن نفسي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الكاتب: الأستاذ محمود البرهان