الآيات والسور التي وردت فيها كلمة “يتفكرون” في القرآن الكريم (2)

والآن مع المجموعة الأولى من الآيات والتي تتحدث عن التفكر في آيات الله الكونية، في السماوات والأرض، بما يشمل الإنسان وما سخره له في هذا الملكوت الدال على كمال قدرته وجزيل نعمه وآلائه على مخلوقاته.

أولا: التفكر في خلق الله: 

الآية الأولى من هذه المجوعة هي من سورة آل عمران (191) (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ  عَذَابَ النَّار) بدأت هذه الآية بكلمة الذين وهي صفة لآخر كلمة في الآية السابقة لها (…لأولي الألباب)، والآية السابقة (190) تتحدث عن خلق السماوات والأرض وعن الليل والنهار وتصفها بأنها كلها آيات، إنها من المعجزات التي أبدعها الله تبارك وتعالى، ولكن لمن يمكن أن تكون آيات؟ إنها كذلك لأولي الألباب، (والألباب جمع لُب، وهو جوهر الشيء ووسطه ، ولُب الرجل هو عقله السليم المستنير بنور الله)، فهؤلاء أولو الألباب يتميزون عن غيرهم من الناس بأنهم يجمعون بين القراءتين، واللتين سبق الحديث عنهما في مقال سابق عن سورة العلق (اقرأ)، إنهما القراءة باسم الله والقراءة مع الله. فهؤلاء عرفوا الله من خلال التفكر في ملكوت السماوات والأرض، فآمنوا به حق الإيمان، واتبعوا النور الذي أنزله الله على نبيه وساروا على هديه، فهم يحمدون الله في كل أحوالهم، وأفضل الحمد يكون بذكره تعالى كما أرشدهم في كل حين وفي كل وقت، وجاء بصورة مشرقة لهم، إنهم يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وهل يمكن أن يكون الإنسان في حال غيرها، والذكر ليس باللسان فقط، فهذه صورة من صور الذكر، ولكن بالتوجه إلى الله في كل عمل يقومون به نهارا أثناء أعمالهم المعاشية (كل حسب عمله ومهنته) أن يكون عمله خالصا لوجهه، يبتغي به مرضاته، وفي طعامه وشرابه، في صلاته وراحته، ويذكره ليلا إذا توجه إلى منامه (وعلى جنوبهم) أو كان مع أهله، في كل ذلك يبتغي رضاه ومغفرته ورحمته، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). هذه القراءة الأولى والتي تسير في نفس الوقت تماما ومتوافقة مع القراءة مع الله (بمعية الله) وذلك قوله تعالى (ويتفكرون)، إنهم يبذلون كل جهد ممكن في استخدام كل ما منحهم الله من النعم والإمكانات التي تحدثنا عنها سابقا في التفكر والتدبر للوصول إلى الإيمان اليقيني بالله وذلك من خلال التفكير العميق والربط الدقيق لهذه اللوحات المُبدَعة في السماوات ببهائها، وفي الأرض بجبالها ووديانها، بجناتها وأنهارها، ببحارها وبحيراتها وكل ما تحتويه من خلائق في بحرها وبرها وسمائها، إنه إبداع جمالي وموسيقي يسحر الألباب ويأخذ بالأسماع والأبصار، هل يمكن أن يكون هذا عبثا؟! أو أنه خلق نفسه بنفسه؟! سبحان الله عما يصفون!

ويأتي هنا عنصر هام آخر من عناصر المنهج القرآني لبناء الحضارة الإنسانية، إنه الاعتدال والوسطية، بعيدا عن التطرف والطغيان، فلا تجاوز للحد من جانب على آخر، فلا الإيمان وحده ينجح دون الأخذ بإعمال العقل والتفكير العميق للوصول إلى حقائق ونواميس الكون، ولا ينفع العقل وحده دون الإيمان بالوصول إلى السلام والطمأنينة والانسجام مع الكون من حوله، فالمفكر دون إيمان سيصل إلى تأليه غير الله والانحراف وضيق الأفق، والمؤمن دون إعمال العقل والفكر لا يمكن أن يصل إلى إعمار هذا الكون وتحقيق الغاية التي بينها الله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) ولكنه المفكر المؤمن، والمؤمن المفكر بلا إسراف ولا طغيان من جانب على آخر.

وعندما يصل المؤمن المفكر إلى هذا التوازن المنسجم بين نواميس الكون والنور الذي جاء به الهادي البشير من عند الله، ويحقق العبادة مع التفكر ويصل إلى تحقيق الاستخلاف في الأرض من خلال الإيمان بالله واليوم الآخر يختتم المشهد البهيج بالدعاء والتبتل إلى الله أن يحفظنا من عذاب النار وبالتالي الفوز بالجنة (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). فاللهم اجعلنا من الفائزين.

وتأتي الآية 3 من سورة الرعد (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا َوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لترسم مشهدا آخر، وذلك بعد أن كان مُجمَلا في سورة آل عمران السابقة، فهنا يتحدث بتفصيل أكثر عن بعض الآيات في الأرض، وبعض صور الجَمال المُعجِزة، مختتما إياها بتتابع الليل والنهار بوصف مدهش من غطاء أحدهما للآخر في عملية مستمرة متناسقة على مر الأيام والدهور، رغم تفاوت الوقت الذي يحدث فيه ذلك من يوم لآخر دون خلل ولا تقدم ولا تأخير. فما عليكم أيها الناس إلا أن تنظروا وتسمعوا وتُعمِلوا هذه العقول التي استودعها الله فيكم، فهذا مجال عملها اليوم لتصلوا إلى بارئ السماوات والأرض ومبدعهما. ويلفت القرآن الكريم هذا التفكير إلى بعض هذه الآيات: فقد بسط الله الأرض ووسعها من أي مكان كنت فيه تراها كذلك على امتداد النظر، وكلما سِرت أكثر وجدتها كذلك، حتى تعود إلى نفس المكان الذي انطلقت منه، مما يدلل على كروية الأرض، فماعليك أيها الإنسان إلا أن تعمل فكرك لتصل إلى القوانين التي تحكم هذا الامتداد والاتساع، فإنها ستُفتح عليك بإذن الله، وتَفَكّر في آية عجيبة أخرى، إلى هذه الرواسي، إلى هذه الأوتاد إلى هذه الجبال الشامخات، وفي هذا الموضع وصفها الله بالرواسي التي تقوم بوظيفة التثبيت والاستقرار لهذه الأرض المبسوطة الممتدة المتسعة (..رواسي أن تميد بكم)، وكانها مرساة  لسفينة تريد أن تستقر في مكان ما، ومع ذكر الرواسي يأتي ذكر الأنهار، والأنهار هي ما سال على وجه الأرض من الماء وما فاض، وهو في أغلب الأحوال من ماء السماء، مما ينزله الله من الأمطار على المرتفعات والجبال فيتجمع في الوديان، وقد تكرر هذا المشهد مرة أخري في سورة النحل، ومع الأنهار تأتي الجنان وما تشمله من كل الثمرات، والإبداع ليس فقط في ألوانها المختلفة وروائحها الزكية ومذاقاتها المتفاوتة بل في كونها أزواجا، فانظروا إلى بديع صنع الله، من كل ثمرة زوجان اثنان، وذلك للحفاظ على النوع ولاستمراره وبقائه، هذا القانون الذي يسود كل خلقه، فمن كل شيئ جعل زوجين اثنين للتكاثر وحفظ النوع حتى في النبات وفي أدق الكائنات، فانظروا وتفكروا واكتشفوا واعلموا أن الله على كل شيئ قدير. إنه التفكير المفضي للإيمان بالله، وللعلم بالسنن والنواميس في الكون، ثم عقَّب بآية أخرى، تعاقب الليل والنهار بأن يغطي أحدهما الآخر، وكل مكان في الأرض له ليله ونهاره وصيفه وشتاؤه. إنها المعجزات التي لن تفتأ تظهر لنا كل يوم بإعمال الفكر والنظر والتدبر والتأمل. (سبحانه وتعالى عما يشركون).

وتتوالى الآيات من سورة النحل، الآية 11 ((يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وفي هذه الآية يخبرنا رب العزة وبتفصيل أكثر عما أنعم به على الناس بعد أن أخبرنا في الآية السابقة لها من نفس السورة عن إنزال الماء من السماء (هو الذي أنزل من السماء ماء..) فهو وهو وحده الذي ينزل الماء من السماء لا أحد سواه قادر على ذلك (وهو الذي ينزل الغيث..)، وبعد إنزال الماء من السماء يُنْبِتُ للناس ما يحتاجون إليه في معاشهم، فمن الذي يخرج الزرع؟ إنه الله وحده لا شريك له، فالإنسان يحرث الأرض ويلقي البذور فيها، ثم يُنبت الله جل وعلا النبات، فانظر أيها الإنسان وتفكر وتدبر في هذه الآية، فالماء واحد والأرض واحدة، أما النتيجة فهي الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وهذه كلها من لوازم حياتك ومعاشك وما يصلح به جسدك، وبعد ذلك منحك من كل الثمرات، وهذا من النعم التي أنعم الله بها على البشر لينتفعوا وليعتاشوا وليتفكروا فيؤمنوا بالله وحده، فيعبدوه ولا يشركوا به شيئا. واللفتة الباهرة هنا قوله تعالى آية ولم يقل آيات، لأن الحديث هنا عن أمر واحد هو إنزال الماء وما تلا ذلك من إنبات الزرع والشجر والثمرات، كل ذلك هو أية واحدة بكلية واحدة  متراتبة متعاقبة.

أما الآية 69 من نفس السورة (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تصور هذه الآية الكريمة آية أخرى في خلق آخر من مخلوقات الله في هذا الكون الزاخر بالآيات العظيمة، إنها واحدة من الحشرات العظيمة الفائدة للإنسان، صغيرة الحجم، ولكنها من أكثرها نشاطا ونظاما ودقة، وربما فاقت كثيرا من الناس في دقة هندستها وتنظيمها لبيوتها وحياتها، إنها النحلة.

ولننظر إلى السياق القرآني الوارد في الآية السابقة لهذه الآية (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) فالله جل وعلا قد اصطفى من البشر رجالا أوحى إليهم بطرق الوحي التي بيَّنها في القرآن الكريم، كما أوحى إلى بعض النساء كأم موسى، أما من غير البشر فقد أوحى إلى السماوات (وأوحى في كل سماء أمرها) فصلت 12، كما أوحى إلى الأرض (بأن ربك أوحى لها) الزلزلة 5. واختار من بين كل خلقه من غير البشر والسماء والأرض، اختار النحل كي يوحي إليه، فالله بجلاله وعظمته وقدرته يوحي إلى هذه الحشرة الصغيرة، إنها الحكمة الإلهية أن يضع في هذه الحشرة ما يؤهلها لتلقي الوحي الإلهي بالكيفية التي يعلمها ولا مجال للإنسان أن يسبر أغوارها، فهذا خارج عن مجال الفكر والعقل، إنه الغيب الذي اختص الله به نفسه، إلا ما أطلعنا عليه في كتابه أو عن طريق رسله. وبهذا الجلال يأتي الوحي على شكل خطاب مباشر (أن اتخذي) فأنت أيتها النحلة تقررين مكان استقرارك وسكنك، وتختارين بيوتك في المكان المناسب لك من الجبال ومن الشجرومما يعرش الناس، سبحانك ربي سبحانك، فالسياق القرآني بدأ بالحاجة الأساسية الماسة لكل مخلوقاته كما تحدث عنها علماء الاجتماع (جدول ماسلو للحاجات البشرية) وها هي تنطبق على المخلوقات الأخرى، فالحاجة الأساسية الأولى والتي لا غني عنها هي المسكن والمأوى، ثم تأتي الحاجة االأخرى: الطعام والغذاء للحفاظ على الحياة، وجاءت الآية التي نحن بصدد الحديث عنها بعد أن تحققت الحاجة الأولى، ويأتي الخطاب المباشر مرة أخرى (ثُمَّ كُلِي) فطعامك هو من كل الثمار التي أنبتها الله في هذه الأرض، لا شيئ منها بعيد عنك ولا ممنوع منك، فالذي أمرك بالأكل هو الذي أباح لك ومنحك القدرة على الوصول إلى كل الثمرات، ويجيئ الأمر الثالث مبنيا على الأمر الثاني (فَاسْلُكي) فقد منحتك من الوسائل والقدرات في جسدك الصغير ما يؤهلك على الانتشار في الأرض ولو لمسافات بعيدة، فقد ذللت لك الطرق والسبل، فكلها سهلة الوصول ويمكنك الذهاب والإياب، دون خوف من الضياع، فستعودين إلى بيتك آمنة مطمئنة محملة بخيرات الله من كل الثمرات. والآية العجيبة والتي تستحق إعمال الفكر والعقل من الناس، ليس فقط في كل ما سبق، وهو الضروري للوصول إلى الإيمان بالخالق المبدع، ولكن فيما سيأتي الآن، ( يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) فبعد تناول النحلة للطعام من فمها، تحدث عمليات في بطنها والنتيجة: إنه الشراب المختلف الألوان والمذاقات حسب الثمرات التي تناولت منها طعامها، وهذه تختلف من مكان إلى مكان ومن فصل إلى فصل من فصول السنة ومن ثمرة إلى ثمرة، ولكنه في كل الأحوال العسل المصفى ، وهذا المجال الواسع للتفكير والإبداع والوصول إلى العلوم النافعة للبشر، ثم إن هذا العسل فيه إعجاز آخر، فيه شفاء للناس، وهنا كلمة شفاء نكرة وليست معرفة، ويرتبط ذلك بمدى معارف الناس بما يصلح لهم من الشفاء ونوع الشفاء ومقداره وآلية عمله…فهذا الأمر مجاله واسع جدا للبحث والتفكير المستمر والذي لا يتوقف في كل زمان وكل مكان، مهما تقدمت العلوم وظن الناس أنهم وصلوا إلى أغوار المعارف فستبقى الآية تقول لنا (وقوله الحق) فيه شفاء للناس.

وكل ما تم ذكره هو آية لقوم يتفكرون، فيؤمنون ويتعلمون ويجمعون بين الإيمان والعلم والمعرفة لما فيه صلاحهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة.

 متابعة للمجموعة الأولى: التفكر في خلق الله:   

ونصل إلى الآية 8 من سورة الروم  (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) وقد جاءت هذه الآية بعد ذكر أحوال الناس وأن أكثرهم لا يعلمون، وذكر السبب في ذلك وكما قلنا من قبل، فإنه طغيان جانب على آخر، فهم عندما تركوا جانب الإيمان بالله وتركوا القراءة باسم الله، انغمسوا فقط في الدنيا وتركوا الآخرة كرمز أساسي للإيمان بالله وبالمعاد، وبالحساب وبالعدل الإلهي الذي لا يترك أحدا مهما تجبر في الدنيا وظن أنه قد نجا من الحساب والعقاب، فمثل هؤلاء مهما تفكروا في الدنيا ومهما تبحروا في العلوم الحياتية والطبيعية فلن يصلوا إلى الصلح مع أنفسهم ومع الكون من حولهم، ومن هنا بدأت هذه الآية بتوجيه اللوم والتوبيخ لهم على انغماسهم في ظلمات الجهالة، رغم الآيات العظيمة التي أودعها الله في أنفسهم لو أعملوا فيها عقولهم وفكرهم وأبصارهم وبصائرهم (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) في جمال التكوين البشري العام، وفي كل جهاز من أجهزة الجسم، وفي كل عضو من أعضاء الجهاز وفي كل خلية من خلايا العضو وفي التركيب الدقيق للخلية بمكوناتها ووظائف كل جزء منها، وأما نواتها وتركيب الجسيمات التي تحمل الصفات الوراثية بتركيب ذري متراتب بشكل دقيق بحيث لو تغيرت ذرة من مكانها إلى مكان آخر لتغيرت الوظيفة والمهمة، ولربما حدث خلل جيني قد يؤدي إلى خلل وراثي، فسبحان الله عما يصفون، فانظروا أيها الناس في أنفسكم نظر المتبصر المعتبر، أما إن تجاوزتم عن كل مما سبق، فانظروا في السماوات والأرض وما بينهما من الإبداع والجلال والعظمة (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) فإنكم إن أخلصتم الإرادة وتحررتم من التقليد والتبعية للآخرين ومن التمسك بمصالحكم و استغلالكم الناس لتحقيق الملذات والمتع الزائلة، فستصلون إلى الإيمان بالله وإلى السير على طريق الهدى، فكل ما في السماوات والأرض ليس عبثا ولكنه الحق، ومن أبسط القوانين التي توصل لها الباحثون أن لكل شيئ ولكل مادة أجل محدد (ما يسمى مدة نصف العمر) والأجل المحدد قادم، ولكن إذا طمس الناس بصائرهم وهو ما يحدث مع كثير من الناس فلن يهتدوا إلى الإيمان بالآخرة وبلقاء الله، فهل سينفعهم ذلك؟ هل سيغني عنهم شيئا؟. وكلمة كُفْر تعني الغطاء، وكأنهم يغطون الإيمان الكامن في نفوسهم بأنفسهم فأضاعوها.

أما الآية 21 من نفس السورة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فتبرز أيات أخرى من أنفسنا في حال تفكرنا فيها. وسياق الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية يتحدث عن معجزات الله في هذا الكون، في السماوات والأرض، والآيات هنا عن خلق الأزواج من البشر بعد أن ذكر بدء الخلق من تراب، فقال تعالى مخاطبا الناس كلهم من الرجال والنساء مذكرا لهم بنعمه وآلائه عليهم أنه قد خلق لهم من أنفسهم أزواجا ليسكن بعضها لبعض، والأزواج هي جمع زوج، وهي تطلق على الرجل والمرأة، (فالرجل زوج المرأة والمرأة زوج الرجل) والمثنى زوجان (الرجل والمرأة)، وهناك رأيان في هذه الآية: إما أن الحديث عن أصل خلق المرأة من الرجل (من ضلع آدم كما هو مشهور) أو أن الله خلق لنا من جنسنا أزواجا فلم يجعل زوج الرجل من جنس آخر وكذا الأمر بالنسبة للمرأة فلم يجعل زوجها من جنس مختلف عنها، وهذا أقرب للتآلف والانسجام والتعارف والتقارب، ومن ثَمّ التكاثر والتناسل وحفظ هذا الجنس البشري كما أراده الله جل وعلا. فما هي الحكمة التي أرادها الله من وراء ذلك؟ إنها كائنة هنا في الآية (لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) ليسكن بعضكم لبعض، والسكن هو الاستقرار في المكان الواحد مع الطمأنينة والأمن والأمان والهدوء (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) وقال تعالى (إن صلاتك سكن لهم) فهي الراحة والطمأنينة والرحمة.

والله جعل العلاقة بين هذين الزوجين قائمة على أنبل وأطهر وأقدس رباط بين رجل وامرأة، رباط الزواج على سنة الله ورسوله، إنهما الآن أسرة، هي اللبنة الأولى في المجتمع والتي تحقق الغاية من خلق الإنسان على الأرض.

وقد رتب رب العزة على هذه العلاقة المقدسة وبعد تحقق السكن بينهما، رتب وقوع المودة والرحمة بينهما كذلك. (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) جَعَلَ هنا على سبيل الإيجاد بعد أن لم تكن أو على سبيل التحويل بعد أن كانت علاقة جديدة دون سابق تعارف بينهما، ولكن بعد أن تحقق السكن جاءت المودة بأمر الله، فهو الذي جعل، والمودة مجموعة من المشاعر يغمرها الحب والأنس بالمحبوب، والتلطف والحنان والمعاشرة القائمة على البذل  والعطاء والتضحية والفداء، وتسمو هذه المشاعر حتى تغمر شغاف القلوب وتشع على الجوارح في أسمى صورها عندما يُعبِّر القرآن في ألطف بيان وأطهره (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، كل هذا في إطار شامل من الرحمة المتبادلة بينهما، فكل منهما منهمك في أداء مهامه اليومية المعاشية نهارا، حتى إذا جاء الليل سكن بعضهم إلى بعض في مودة ورحمة، وفي كل هذا آيات وآيات لقوم يتفكرون.

ونسير مع سورة الزمر 42 إلى آية أخرى من آيات الله التي يحثنا ربنا على التفكر فيها (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فبعد ذكر الآيات في الأنفس وفي العلاقات التي تربطها يوجهنا القرآن الكريم إلى جانب هام من حياتنا اليومية، وإلى حقيقة نراها ونعيشها كل يوم، فإذا كنا لم نر بدء الخلق، فإننا نرى ظاهرة نهاية الإنسان في هذه الحياة الدنيا، عندما يصل إلى الأجل المسمى الذي كتبه الله له، إنه الموت. (كل نفس ذائقة الموت) وكما يقول الشيخ الشعراوي ما ملخصه أن النفس هي نتاج وجود الروح في الجسد والحركة الناشئة عن ذلك، أما الموت فيحدث عند مغادرة الروح لهذا الجسد.

والموت موتان: فهناك الموتة الصغرى وهناك الموتة الكبرى.

أما الموتة الصغرى فهي الظاهرة التي ألفناها من لزومها لنا، ولا استغناء للإنسان عنها في كل أيام حياته، ألا وهي النوم، فالنوم آية من أيات الله التي لم يصل العلم إلى حقيقة كنهها رغم كل التقدم الذي وصلنا إليه، وكل ما يقال في ذلك هو محاولات للتفسير لا ترقى إلى الحقيقة، أما الحقيقة فهي هنا (الله يتوفى الأنفس) وهذا يحدث في حالتين: عند النوم وعند الموت، فمن حان أجله توفاه الله وقبض ملك الموت روحه بإذن الله، فلا تعود إلى الجسد، أما الذي لم يحن أجله بعد فيرسل الله له روحه ويعود إلى التمييز والإدراك وإلى الحياة والحركة إلى أجل مسمى عنده. (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، فهذه الآيات هي مجال لإعمال الفكر للوصول إلى المدبر والمقدر للآجال، وإلى اليقين أن الله القادر على إحياء النائم مرة أخرى هو قادر على البعث والنشور يوم القيامة، فلا تعطلوا هذه الملكات  والقدرات الفكرية والعقلية، وتَفَكَّروا في حياتكم ومنامكم ومماتكم، ولا تركنوا إلى الإلف والعادة، بل هي معجزات دالة على من خلقها وأودعها فيكم، فاعتبروا وعودوا إلى ربكم وأسلموا له قبل أن يحين الأجل ويحين الحساب.

ونصل إلى ختام هذه المجموعة من الآيات، ومع سورة الجاثية 13 (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وبعد توجيه الناس وأولي الألباب للتفكير والتدبر في خلق السماوات والأرض، ثم إلى الجبال والأشجار والثمار والنخيل والأعناب، ثم إلى النحل، كمَثَلٍ لمخلوقاته، ثم إلى النفس وزوجها والسكن والمودة والرحمة، وبعدها إلى الموتة الصغرى والكبرى للإنسان، تأتي هذه الآية لتُجمل كل ما سبق في سياق واحد وفي معجزة أخرى، أن كل ما في السماوات والأرض، ما أشير إليه سابقا وما لم يٌشَر إليه، إنما خلقه الله وسَخَّرَه لهذا الإنسان حتى يقوم بواجب الخلافة في الأرض على الوجه الأكمل. فالتسخير يعني التذليل وجعل الشيئ سهل الانقياد والطاعة، و سهل الاستخدام في ما يعود بالنفع على البشر. فكل ما في السماء من نجوم سيارة و من الكواكب ما عرفنا منها حتى الآن وما لم نعرف، وما يمكن أن نعرف مستقبلا فهي كلها بجمالها وزينتها، بطاقاتها التي لا تنضب، بفراغها و سدومها، بإشعاعاتها التي استطعنا التعرف إليها وما ليس بعد، بهوائها وفراغها، بحسبان أفلاكها ومساراتها، وإلى الكثير الكثير الذي لا يتسع المجال هنا للحديث عنه يجعل حياتنا مُيسَّرة ومستمرة، وقد يَسّر الله لنا الوصول بالنظر والتفكيرإلى بعض من أسرارها وقوانين حركتها و النواميس التي تحكم مساراتها بما عاد بالنفع الكثير على البشر. أما ما يمكن أن يقال عن تسخير ما في الأرض من البحار وما حوته من مكنوناتها، والأنهار وما تأتي به من الجَمَال والجنان والعمران، إلى الجبال وما تدخره من الكنوز والمنافع ودورها في استقرار الأرض، إلى باطن الأرض و ما تُكِنه من الماء والمعادن وعناصر الطاقة، إلى ما على الأرض من الدواب المسخرة للإنسان لطعامه وشرابه وملبسه وأسفاره وحمل متاعه، إلى كل ما عليها من أنواع النبات والأشجار، والطيور والحشرات (النحل مثلا)، وما لا نستطيع إحصاءه في مجلدات لا مقالات مما وصلت إليه مداركنا ومعارفنا، كل ذلك مُسَخَّر للناس، فتفكروا في الكون كله وتسخيره لكم لتصلوا إلى جزء من نعم الله فتعرفوها، وتصلوا إلى الإيمان بالله الواحد القهار، فتوحدوه وتعبدوه وحده لا شريك له، وتنقادوا له طائعين حامدين شاكرين. إنها الآيات المعجزات الباهرات لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وقد وردت كلمة سَخَّر 30 مرة في القرآن الكريم منها 29 مرة في إطار النفع للإنسان ومرة واحدة في إطار الغضب الإلهي على قوم كافرين (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما).

الجزء الرابع

ثانيا: ضرب الأمثال:

في هذه المجموعة من الآيات يدعونا القرآن الكريم إلى التفكر والاعتبار في الأمثال التي يضربها لبعض الحقائق الإيمانية، حتى لا نقع في الخسران في الآخرة، والله يقول (وإن الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)

ومع الآية 266 من سورة البقرة: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) بالتأمل في هذه الآية والآيتين اللتين سبقتاها من نفس السورة 264 ،265 حيث ضرب الله مثلا في الآية 264 لمن ينفق ماله ثم يتبعه بالمن والأذى دون إيمان بالله ولا باليوم الآخر، كمثل صخرة صماء عليها قليل من التراب فأصابه المطر فأصبحت جرداء ملساء لا تنبت شيئا، بعد كان من المأمول أن تأتي بالنبات، وهذا المثل لذهاب المال في الدنيا دون أن يحصل على الأجر في الآخرة، أما الآية 265 فقد ضُربت مثلا لمن ينفق ماله في سبيل الله ولا يتبعه بالمن والأذى بل بعمل يؤكد به ابتغاء مرضات الله، فهذا يبارك الله له في الدنيا ويكافئه خير الجزاء في الآخرة، وتأتي هذه الآية للتعقيب على المثلين بمثل ثالث على صورة الاستفهام، حيث يخاطب رب العزة المؤمنين به، فيقول لهم: هل يحب أحدكم أن يمتلك في هذه الدنيا الخير الكثير والمال الوفير ممثلا بحديقة غناء (جَنَّة وهي ذات الشجر الوافر المتكاثف والذي يغطي الأرض بظلاله الوافرة) فيها من كل الثمار وابهجها وأغناها: النخيل والأعناب، وماؤها من أنهارها التي تجري فيها، إنها صورة للجمال فوق الجمال، فهو يعيش فيها وفي خيراتها ردحا من الزمن، ولكن الحال يتبدل ويكبر في العمر، وتضعف قوته، فتصبح حاجته إلى بقائها على حالها شديدة، وتزيد الصورة من وصف ضعف حاله أن أولاده الذين يأمل أن يساعدوه ويقفوا بجانبه ما زالوا صغارا ضعفاء، ولنتصور المشهد وهو في هذا الحال من الضعف يصاب هذه الحديقة إعصار، وأي إعصار! إنها زوبعة شديدة تقتلع كل شيئ تصيبه، فكيف إذا كان الإعصار مصحوبا بنيران تحرق الأخضر واليابس، فالصورة مرعبة موحشة موئسة، وهو ينظر إلى ما أصاب مصدر رزقه الوحيد في وقت العجز وانقطاع السند والمُعين، فهذا المثل لمن يعمل عملا صالحا في الدنيا ثم يخالطه في الختام بعمل سيئ، فيأتي يوم القيامة وقد ضاعت كل حسناته ولا مغيث له هناك، فكل يقول نفسي نفسي، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)، فهذه آيات معجزة تستحق التفكير في الحال والمآل وعاقبة الأمور، ومن رحمة الله بنا أن يضرب لنا هذه الأمثال حتى ننجو من العذاب المهين في الآخرة، ونفوز بالجنان ورضى الرحمن، وجوار الصالحين من الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

أما الآية 50 من سورة الأنعام (قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) فهي توجيه للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بالإجابات التي يتوجب عليه أن يرد بها على ما كان يسأله المشركون وكأنهم يتحدون به رسول الله، فقد سألوه أن يأتيهم بالكنوز والمال حتى يغنيهم، وأن يُعْلِمَهم بالمستقبل فيعرفوا ما سيقع لهم من خير فيستبشروا به ومن شر فيتجنبوه (وكأن في مقدورهم دفع قدر الله عن أنفسهم) ثم سألوه أن يكون معه مَلَكٌ فيؤيده في دعوى النبوة. ويتنزل أمين وحي السماء على أمين الوحي في الأرض بالإجابات القاطعة مبتدئا لها بكلمة (قُلْ) وما كان للنبي الأكرم أن ينقص حرفا من الوحي، فإنما هو البشير النذير (إن عليك إلا البلاغ)، قل لهم يا  محمد أن الذي يملك خزائن الخيرات هو الله فليس لي منها شيئ، وهو الذي يأتي بها متى شاء لمن يشاء كيفما شاء، وأما علم الغيب فهو ليس لي أيضا بل هو شأن إلهي خالص، فلا يعلم الغيب إلا الله، فما علي وعليكم إلا الإيمان بالله وبقدرته وأن الغيب له وحده، وما أنا إلا بشر مثلكم، عرفتموني صغيرا وعشت معكم شابا وعملت بالتجارة معكم، صدقتم حديثي وأمنتموني على أموالكم فكنت بينكم الصادق الأمين، فهل سأكون صادقا معكم، أمينا بينكم وأكذب على الله وأكون غاشا له؟؟ ما لكم كيف تحكمون؟!! ثم يأتي الجواب المعجز لهم، المستنكر لكل هذه الادعاءات والتساؤلات التي لا يقصدون من ورائها الوصول إلى الإيمان بالله، ولكن الاستمرار في الغواية والضلال، جاء الجواب بضرب مثل لهم مستنكرا لكل أقوالهم من خلال سؤال استنكاري (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِير)، فمَثَلكم ومَثَلي كمَثَل الأعمى والبصير هل يستويان؟!! أنتم في كفركم وضلالكم تسيرون في الظلمات عُميا، والأعمى لا يسير على طريق صحيح، بل سيتردى في كل الحفر والوديان والقيعان، وسيسير في كل الأشواك والأدران والأخطار، وأما أنا فبصير، أسير في نور الهداية والرشاد من ربي، فهل نحن سواء؟! حاشا لله، فأعملوا عقولكم وفكركم وعودوا إلى رشدكم وإلى الهداية التي جئتكم بها تهتدوا وتفلحوا.

ومع مثل آخر في سورة الأعراف 176 (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وتأتي هذه الآية تتمة للحديث عن الآية الساببقة لها (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين) فهذا رجل آتاه الله من العلوم النافعة في دينه وآخرته الكثير، فلم يعمل بها وتركها وعاد إلى الكفر، وعبَّر القرآن بلفظ (انسلخ) للدلالة على إرادته هو ترك العمل بها، فكأنه سلخ جلده كالثعبان الذي ينسلخ من جلده ويلقيه عنه، فتركه الله لما أراد من الضلال، وسار على درب الشيطان، أو أنه أصبح قائدا للشيطان في سبل الغواية لنفسه وللناس، وهذا من أخس الحالات التي وضع نفسه فيها (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين). ونصل إلى الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، فالحكمة الإلهية تقتضي أن يحاسب الناس على اختياراتهم إما الهدى وإما الضلال، وهذا منتهى العدل، فيكون الجزاء من جنس العمل، فالله تعالى قادر على كل شيئ وأمره بين الكاف والنون، وهو أن يسلبه الاختيار ويبقى على الهدى ويرفع مكانته ولكن الله، الحكم العدل، اقتضى عدله أن يمنح الناس حرية الاختيار بين الهداية والغواية، وهذا الرجل اختار الخلود إلى الأرض والبعد عن طريق الرشاد، إنه الركون إلى الدنيا بشهواتها وملذاتها، وزينتها الزائلة الفانية وهو النقيض للعلو والارتفاع عند التمسك بالرشد والهداية. والركون إلى الأرض والدنيا سيتبعه اتباع الهوى واتباع غواية الشيطان وأحابيله وفساده وإفساده.

وعند هذه اللحظة يأتي ضرب المَثَل لمِثْل هذا العمل، بغض النظر عن اسم الرجل أوزمانه أو مكانه، فهذا ينطبق على كل من كان سبيله وطريقته الانتكاس عن الهدى إلى الضلال، والانسلاخ من الآيات التي آتاه الله إياها والسير في طريق الكفر واتباع الشيطان وغوايته. وقد اختار الله جل وعلا أن يشبه مثل هذا الرجل بالكلب الذي يلهث في كل أحواله، في هدوئه وحركته، والسياق القرآني ذكر ذلك (إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) أي إن طردته ونهرته فخرج مسرعا مفزوعا فهو يلهث، وإن تركته هادئا مطمئنا فهو يلهث، وهذا ليس من باب التحقير للكلب، فهذه طببيعته التي خلقه الله عليها، وذلك بسبب عدم وجود الغدد العرقية في سائر أنحاء جسمه (فقط لوحظت في باطن أقدامه وأنفه) وبالتالي فكي يقوم بتبريد جسمه فإنه يقوم بهذا الأمر (اللهاث) بإخراج لسانه وسرعة تنفسه، ووجه الشبه أن الذي انتكس إلى الكفر قد رضي بالركون إلى الدنيا، لذا فإنه لا يقنع أبدا من أي شيئ يفعله سواء من الملذات أو الشهوات أو جمع المال، فهو دائما يعيش في القلق والاضطراب خوفا من اللحظة القادمة ألا يستمر في المتع أو من فقدانها، فهو يجرى ويجري دائما لاهثا وراء هذا الحطام الفاني، فما أبلغه من وصف، وأدقه من مَثَل لكل من كذَّب بآيات الله بعد أن عرفها فتركها.

ويأتي التوجيه الإلهي للنبي الكريم أن اقصص عليهم من هذه الأمثال، فهي جزء من القصص المؤثر في القلوب التي تتفتح إذا أعملت مفاتحها، فتزدان بنور الإيمان، فما عليك أيها النبي إلا أن تبلغ رسالة ربك وتحرضهم على إعمال العقول للتفكير في عواقب من كان قبلهم، ومن يسير على مثل أفعالهم القبيحة، فاعتبروا يا أولي الألباب.

ونصل إلى الآية 24 من سورة يونس (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وبعد أن ضرب الله الأمثال لمن يتمسك بالدنيا ويكفر به من أجل ملذاتها ومتعها، تأتي هذه الآية لتضرب المثل للدنيا في مجملها، حتى لا يقول أحد بعد هذا المثل أنه لم يصله بلاغ ولا تفصيل من الله تعالى، بل ها هو البيان الشديد الوضوح من الحياة التي تعيشها كل يوم، وصورة لا تنفك عنك لأنها من بديهيات حياتك، إنها من طعامك وشرابك، وطعام الدواب التي تعيش معك وتشاركك حياتك، فها هو الكتاب المبين يتحدث بالتفصيل عن هذه الآيات من حولنا حتى نعمل فكرنا، ونختار بين هذه الحياة الدنيا الفانية وبين الآخرة الباقية الخالدة بنعيمها وسلامها (دار السلام) وخيراتها ودرجاتها ورفاقها الأخيار، فانظروا إلى هذا المثل، فما هوأقرب شيئ لفهم جوهر الحياة الدنيا؟ إليكم ما قصَّه القرآن الكريم:

إن أجمل صورة تعيشونها هي نزول المطر من السماء، إنه من الله وليس لكم فيه جهد ولا عمل، يتنزل الماء من السماء على الأرض الغنية بالخيرات، فيحصل بأمر الله الإنبات من الأرض، ويخرج النبات ويكبر مختلطا بعضه ببعض من الخصوبة والخير الوفير بكل ما يلزم الناس لمعاشهم وحياتهم، من أنواع الحبوب والبقول والثمار وغيرها، ومما يلزم الأنعام كمَثَل على الدواب  التي أنتم بأمس الحاجة إليها لطعامكم وشرابكم وانتفاعكم بها، واستمرت فترة على هذا النمو حتى أصبحت في أبهى حللها وأجمل مناظرها وأفضل ما تحبونها أن تكون، وتتصورون أنها دائمة لكم وأنكم قادرون عليها، وأن ما هي عليه إنما هو بجهدكم وبعلمكم؛ جاء أمر الله، جاء قضاء الله ولا راد لحكمه، جاء أمر الله وانتهى الأمر، إنها النهاية لهذه الحياة الدنيا فأصبحت سرابا يبابا، وكأنها لم تكن، جاء الأمر ليلا أونهارا، وكما يقول الشيخ الشعراوي: في هذا دليل على كروية الأرض، فالأمر يأتي في لحظة واحدة يكون عند بعض الناس ليلا وعند آخرين نهارا، وأمر الله واحد وهو واقع سواء في الليل أو النهار، فاعتبروا يا أولي العقول المفكرة، هذه هي الحياة الدنيا زينة مؤقتة قصيرة إلى زوال وإلى فناء (كأن لم تغن بالأمس) والسنون تلو السنين هي: أمس، زمن قصير إذا قيس بالخلود والبقاء في الآخرة، فالخسران كل الخسران لمن باع الآخرة بهذه الدنيا.

ونختتم هذه المجموعة من الآيات بسورة الحشر 21 (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) حيث يحدثنا القرآن الكريم عن مَثَل جديد يضربه الله تبارك وتعالى للقلوب القاسية والمتكبرة عن الإنصات، والتدبر والتفكر في آيات الله التي تتنزل على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

فالله جل وعلا يضرب هذا المثل توبيخا للمشركين، وتحريضا لهم على إعادة النظر في مواقفهم الرافضة للخشوع والخضوع لكلام رب العزة، لهذا القرآن والذي لو أنزله الله على جبل من الجبال التي ترونها بأعينكم، وتعلمون شدتها وقوتها وعظمتها وصلابتها، لتصدع واندك من الخشوع له، فهذه الجبال قد أبت سابقا أن تحمل أمانة التكليف التي عرضها الله عليها، والله أعلم كيف خاطبها وكيف أجابته، فهو خالقها وخالق كل شيئ، (وهو بكل شيئ عليم)، وقد حدثنا القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام كيف جعل الله الجبل دكا عندما تجلَّى له ، وهنا يخبرنا أن الجبال ستتصدع من خشية الله، أما ما يحدث لها يوم القيامة فأمر يفوق كل خيال (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) إنه ليس جبلا واحدا بل كل الجبال كالقطن المنفوش، يا لرهبة الموقف وهول الصورة (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات).

فإذا كانت الجبال تتصدع من هذا القرآن، فما لقلوبكم القاسية لا تتأثر منه، فهل قلوبكم أشد قسوة؟!! ما لكم لا تتفكرون، إنه أسلوب من أساليب الدعوة التي بثها الله تعالى في كتابه العزيز ليعتبر الناس، وليتفكروا في هذه الأمثال التي ضربها الله للناس ليحرضهم على التفكير فيها، فيؤمنوا، ويشملهم الله برحمته إن توجهوا إليه بإرادة الهداية والعودة إلى كنف الرشاد.

الكاتب: الأستاذ محمود البرهان