كلمة الحكمة في القرآن الكريم.. قَبَسٌ مِنْ نُورِ القُران (3)

قَبَسٌ مِنْ نُورِ القُران

كلمة الحكمة في القرآن الكريم

منهج حضارة

الجزء الثالث

القسم الثاني: عطاء وهبة الله الحكمة: البقرة 231، 251، 269، آل عمران 81، النساء 54، 113، الإسراء 39، لقمان 12، ص20

 

ومع الآية 231 من سورة البقرة: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

تأتي هذه الآية في سياق الآيات التي تتحدث عن قضية اجتماعية خطيرة تمس جوهر اللبنة الأولى والأساس في المجتمع المسلم وهي الأسرة، والتي أراد الله تبارك وتعالى أن تستمر بالمودة والمحبة والرحمة، وجعل الرباط المقدس الذي تقوم عليه آية وميثاقا غليظا، وهذه القضية هي الطلاق، والذي هو أبغض الحلال إلى الله U، (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) فربما باءت بالفشل كل المحاولات والعلاجات التي أشار إليها القرآن في العديد من المواضع لرأب الصدع، ولإعادة المياه إلى مجاريها للحفاظ على هذه الأسرة، وعلى هذه العلاقة المقدسة بين الزوجين، رغم هذه المدة التي قررها القرآن ليتمكن كل منهما من مراجعة نفسه من خلال التفكير العميق في المآلات والعواقب لهذا القرار الخطير الذي هما مقدمان عليه، وهنا تتجلى الحكمة الإلهية في امتداد فترة العدَّة إلى ثلاثة أشهر، (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) والبلوغ في هذا الموضع يعني المقاربة النهائية لانتهاء العدَّة بإجماع العلماء، لأنه بانتهائها تماما تكون الزوجة قد بانت من زوجها، ولا سبيل إلى إرجاعها إلا بالشروط الفقهية المعروفة حسب عدد الطلقات (1-3)، والقرار الآن هو للزوج (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ)، والقرار يجب أن يكون قائما على صدق النية، والتي لا يطلع عليها إلا الله U ، فإما إبقاء على هذه الرابطة المقدسة وديمومة الزواج كما يريد المولى U بمعروف، أو المفارقة أيضا بمعروف، وجاء التعبير هنا بكلمة تسريح للإيماء إلى سلاسة العملية، والتي سوف تؤدي إلى أن تبحث المرأة بعد ذلك عما ينفعها ويملأ حياتها من جديد، وهي من سرْح الأنعام للبحث عن القوت والغذاء والماء، وبلاغة التعبير بكلمة معروف (وهي نكرة) حتى تستجيب لكل ما تعارف عليه الناس في كل زمان وكل مكان ولم يخالف المنهج القرآني، وفي نفس الوقت يحقق مصالح الطرفين والعائلتين، والمجتمع كله من بعد، وللتأكيد مرة أخرى على دخيلة النفس البشرية وما تتفاعل به من المشاعر في ظل المشاكل التي أدت إلى النطق بهذه الكلمة البغيضة إلى الله جاء قوله تعالى (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ)، فالإمساك يجب أن يكون بمعروف وليس للإضرار بالزوجة، وقد ورد أن أحد الأنصار (ثابت بن يسار) راجع امرأته قبيل انتهاء العدة ثم طلقها ثم راجعها كذلك.. من أجل إطالة الأمد عليها وإلحاق الأذى بها، ورُوي أن هذا ما كان يحدث في الجاهلية كصورة من صور احتقار المرأة، والأكثر سوءا في هذا الأمر هو أن تكون المراجعة من أجل الاعتداء، وقد حذف المفعول به من أجل تعظيم هذا الاعتداء، والذي هو في جوهره اعتداء على حدود الله كما جاء في الآيات السابقة (الآيات 229 و 230)، وهذا إثم عظيم، وعواقبه وخيمة في الدنيا على كيانات الأسرة من الزوجين والأبناء، وعلى أسرتي الزوجين، والعلاقات الاجتماعية عامة. وإن واصل الزوج الاعتداء على حدود الله فالعاقبة من حيث لا يدرى تقع عليه أولا (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ )، فمن أمسك ضرارا، ومن تعدَّى على حدود الله وكان هذا مقصده من الأساس فإنه يظلم نفسه أولا قبل أن يظلم الآخرين، والظلم مُحرَّم أيا كان شكله وحجمه، ومن المؤكد أنه ليس من الحكمة في شيء أن يتسبب الإنسان في أذى نفسه وأذى الآخرين، بل إن هذا الفِعل يتجاوز كونه ظلما واعتداء (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ)، إنه استهزاء وسخرية بآيات الله وأحكامه التي أنزلها على نبيه الكريم ﷺ، وأي جُرم أعظم من السخرية بكتاب الله U ، إنه تهديد ووعيد بحجم الجريمة، وهل يمكن أن يسخر مؤمن من كتاب الله U ، الأمر ليس نظريا، ولكن الله تعالى يقول لنا إن تجاوز حدود الله والإصرار على المعصية المرة بعد المرة هو من السخرية والاستهزاء بآيات الله، فكيف يفعل أحدكم ذلك وقد أنعم الله عليكم بما لا يحصى من النِّعم؟! (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) يوجه المولى U قلوب وعقول المؤمنين إلى كل نعمه عليهم بإرسال هذا النبي الكريم ﷺ إليهم، وإخراجهم من غياهب ظلمات الجاهلية العقدية والفكرية والسلوكية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلى نور الهدى والحضارة التي تقدمت على كل ما كان قائما في زمانهم من الحضارات والثقافات، وإلى أزمان طويلة بعد ذلك حتى خلدوا إلى الدنيا وأهملوا عقولهم، بل وحجروا عليها، فكانت الارتكاسة التي ما زالت الأمة تعاني من آثارها إلى يومنا هذا وهي تحاول الخروج منها، ولكنها ستنجح بإذن الله إذا ما عادت إلى كتاب ربها وهدي نبيها تنهل منهما منهجها، وتتلمس طريقها بفقههما وفهمهما (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ)، فالله Y قد أنزل علينا الكتاب تشريفا وتعظيما لنا وللغتنا، وقد علَّمنا رسوله الكريم ﷺ ما اشتمل عليه من الحكمة وما تستقيم به حياتنا، فكل ما أرشدنا إليه الرسول ﷺ من الخير ومن سنن الحياة المستخلصة من القرآن الكريم هو من الحكمة، والتي نحن اليوم بأمس الحاجة إليها لنستبين طريقنا وسط هذه الأهوال التي تواجهها الأمة: من الطغيان الداخلي، ومن تكالب الأمم علينا، تنهش لحومنا وتسرق خيراتنا، هي الحكمة التي توجهنا إلى جادة الصواب وإلى تصويب المسير نحو العزة والكرامة، هذه هي الموعظة التي يعظنا بها رب العزة للوصول إلى طريق الانتصار، وذلك من خلال إعادة اللحمة لهذه الأمة بدءا من الأسرة، والعائلة الممتدة، وصولا إلى تماسك الأمة كلها. ثم يحوط القرآن الكريم كل ما سبق بالتقوى وبإحاطة علمه بكل شيء (وَاتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذا هو التعقيب الأخير على هذه التوجيهات القرآنية، هي التقوى والعلم المحيط بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يخفي عليه ما عقدتم عليه العزم من خير أو من سوء؟!!

ملاحظة لطيفة: جاء وصف التسريح في ثلاث آيات بثلاث صفات: بمعروف، سراحا جميلا ، و بإحسان، فالحد الأدنى هو بمعروف بإعطاء كل ذي حق حقه بما هو متعارف عليه في كل مجتمع وبما يتوافق مع الأحكام الشرعية، أو بزيادة عن الحقوق وبطريقة وأسلوب أفضل فيكون جميلا، أو الارتقاء إلى مرتبة الإحسان وهو كمال الأمور في أبهى صورها.

 

وإلى الآية 251 من سورة البقرة: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)

تأتي هذه الآية في ختام سرد جانب من تاريخ بني إسرائيل في فلسطين بعد قرون عديدة من وفاة رسولهم موسى u ، والذي لم يدخل بنفسه إلى هذه البقعة من الأرض لحكمة يعلمها الله تبارك وتعالى. فقد أخرجهم قوم جالوت من ديارهم التي أقاموا فيها، وأبعدوهم عنها فترة من الزمن حتى أذن الله لهم بالعودة إليها بعد أن أكملوا الاستعدادات اللازمة لتحقيق الانتصار وفقا للسنن الإلهية، فتوحدت جبهتهم خلف ملك يقودهم قد اختاره الله لهم بآية بينة، ثم مروا باختبارات لمدى صدقهم وإيمانهم، ثم استكملوا ذلك بالصبر والدعاء والتسليم أن النصر هو من عند الله وليس من عند أنفسهم، فكان الجزاء هو تحقيق السنة الإلهية بالنصر المبين على أعدائهم (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) مصداقا لقوله تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ) – الأنفال 10 –، فانتصر المؤمنون الصابرون الثابتون والمخلصون لله من بني إسرائيل في هذه المواجهة على عدوهم بإذن الله، وكان العنوان الأبرز للنصر هو (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)، كان مقتل الطاغية المتجبر على الناس هو السبب المباشر في الهزيمة النكراء التي حلت بالكافرين، فانكسرت شوكتهم وولوا الأدبار، وتحقق لبني إسرائيل ما وعدهم الله إياه على لسان نبيهم من الغلبة والعزة والكرامة والعودة للديار والأبناء، ثم ينتقل السياق إلى بيان المِنَّة والفضل من الله U على من اصطفاه الله من بني إسرائيل ليكون نبيا لهم، وهذه المنة والفضل (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) هي ما منحه إياه من المُلك، فارتقى إلى درجة الملك بعد طالوت، ومع المُلك جمع الله له الحكمة والتي تصل بالمَلِكِ إلى تمام العدل والمساواة بين الناس، فهما عماد استقرار واستمرار المُلْك، والحكمة هي التي آتاها الله تبارك وتعالى للأنبياء وللرسل لتمام نعمه عليهم، ليكونوا هم أحكم وأفقه أهل عصرهم، ويكونوا هم المثابة التي يأوي إليها الناس في كل أحوالهم فيجدوا عندهم جادة الصواب والخير في دنياهم وآخرتهم، وجاء في معنى الحكمة في البحر المحيط: “قيل العدل في السيرة، وقيل العلم والعمل به”، وقيل هي النبوة، وذكر صاحب المنار أنها الزبور. وقد زاد الله داوود من فضله (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ)، وقد علمه العديد من الأشياء التي اختصه وابنه سليمان بها (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ) – النمل 16 – ، (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ) – الأنبياء 80 – ، (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) – سبأ 10،11 – ، وقد أحب داوود u صناعة الدروع فعلمَّه الله تعالى ذلك، وألان له الحديد يشكله كيف يشاء مما ينفع الناس، ثم تنتقل الآية بعد ذلك لبيان سنة أخرى من سنن الله في التاريخ الإنساني، والتي تهدف إلى حفظ الإنسان والحيوان والنبات، وإلى حفظ الكرامة الإنسانية والحضارة الإنسانية من الدمار والفساد (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) إنها سنة التدافع، هذه السُّنَّة التي بدأت في اليوم الذي هبط فيه آدم  وحواء من الجنة مع إبليس (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ) – البقرة 36 – ، هو العداء بين رمز الشر الذي يرجمه الحاج ضمن مناسك الحج، وبين بني آدم، والذي امتد بعد ذلك بين أتباع هذا الرمز وبين من اختار طريق الخير منهجا لحياته، التدافع بين قوى الخير وقوى الشر التي تظلم الناس وتحاول الاستحواذ على كل شيء لتحقيق ملذاتها وشهواتها في الحياة الدنيا، وبقدر تمسك قوى الخير بالإيمان بالله والثبات عليه، والصبر والمجاهدة في سبيل لله ومن أجل كرامة الإنسان وخير البشر والكون من حولهم يكون الانتصار على مكونات وعناصر الشر، وبقدر تقاعسهم عن القيام بواجباتهم في مواجهة الباطل وكسر شوكته تكون الصولة والجولة للشر وأهله، وتكون النتيجة الفساد في الأرض.                             ومن عجيب إعجاز هذا القرآن العظيم أن هذه السنة قد وردت في موضع آخر، وكان الخطاب فيه للمؤمنين بالله وبرسوله محمد ﷺ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ) – الحج 40 – ، فكفار مكة هم من أخرج الرسول والمؤمنين معه من ديارهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة فارين بدينهم، حيث كان التدافع والمواجهة السلمية قد بدءا منذ الجهر بالدعوة، ثم كان الإذن بالجهاد المسلح مع المواجهة السلمية بالحجة والبرهان، فكان فيهما منع الفساد والذي فصلته هذه الآية كهدم دور العبادة الخاصة بالأديان كلها، وجاء التخصيص هنا بالأديان السماوية المسيحية واليهودية والإسلامية، وإذا كان الفساد قد وصل إلى دور العبادة فهذا يعتبر خط النهاية في الفساد بعد أن طال كل شيء، كل شيء. والملاحظة العجيبة في ورود هذه السنة التاريخية مرة في قصة بني إسرائيل ومرة مع المسلمين وكأنها إشارة إلى التدافع الأخير بين هاتين الفئتين من الناس، وذلك ما نعيشه هذه الأيام على أرض فلسطين. وهذه السُّنة لا تقتصر على المواجهة بين مؤمن وكافر بل بين الظالم والمظلوم حتى داخل صف المؤمنين على مدار التاريخ: تاريخ بني إسرائيل مع أنبيائهم وتاريخ النصارى وأتباع المسيح مع باباواتهم وملوكهم وتاريخ المسلمين مع حكامهم. فالقرآن يصف في آيات عديدة قتل الظالمين من بني إسرائيل لأنبيائهم (…ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) – آل عمران 112- ثم  ظهور الحركات المناهضة للكنيسة على مدار القرون الأخيرة، أما في الأمة الإسلامية فما زالت المواجهة قائمة بين العلماء المخلصين وأهل الحق وبين الحكام الظالمين من آن لآخر حتى وصل الحال للحكم الجبري الذي نأمل أن نصل إلى نهايته بما يحقق العزة والكرامة لهذه الأمة، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) وهذا هو الفضل الذي يمتن به رب العزة على الناس جميعا، لأن انتصار جبهة الحق هو انتصار للناس جميعا، وفيه إعادة الحقوق المغصوبة لأهلها، وتحقيق الاستخلاف كما أراده المولى U ، وفيه الخير لكل ما خلقه الله في هذه الأرض، فهو الفضل من الله.

 

وإلى الآية 269 من سورة البقرة: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)

سبق الحديث عن هذه الآية في مبحث كلمة يذَّكَّرون، ولا بأس من إعادته هنا مع قليل من التصرف والزيادة:

تأتي هذه الآية في سياق 14 آية تتحدث عن الإنفاق، بدءا من الآية 261 وحتى الآية 274 ، حيث سبقتها 8 آيات وتلتها 5 آيات، ويشمل ذلك الحث على الإنفاق، وآدابه وحيثياته وأجوره العظيمة مع ضرب الأمثال.

وتبدأ الآية بالفعل المضارع (يُؤْتِي) وهو يوحي بالاستمرارية، وهو يعني العطاء والمنح، والمُعطِي هو الله تبارك وتعالى، فانظر عظمة المُعطِي لتعلم قيمة العطاء، أمَّا المُعْطَى فهو (الْحِكْمَةَ)، وقد ذكر المفسرون كثيرا من التعريفات لهذه الكلمة الجامعة لكل صنوف الخير، المانعة من كل صنوف الشر، وهي تشمل ولا تقتصر على الآتي: النبوة، المعرفة بالقرآن وعلومه كلها، السنة، الإصابة في القول والفعل، الفقه في الدين والعمل به وطاعة الله، الخشية والورع، العقل والتفكر في ما خلق الله، القصد والاعتدال، الفهم وإدراك العلل والغايات، البصيرة المستنيرة…

ويقول الشيخ محمد عبده كما ذكر رشيد رضا في تفسير المنار: (هي العلم الصحيح، يكون صفة مُحكَمة في النفس حاكمة على الإرادة، توجهها إلى العمل..) ويضيف رشيد رضا (وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم، فهو لا يحكم إلا بالدليل، فمتى حكم جزم وأبرم..).

والحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان من قول أو عمل، وهي كذلك مشتقة من الحُكْم وهو المنع، فهي تمنع صاحبها من السفه بكل أشكاله ومساربه، وتُلزمه كل أشكال الخير.

ونعلم ابتداءً أن الله تبارك وتعالى قد أوجد في النفس الإنسانية كل الملكات والاستعدادات للخير والشر، فقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، ثم اختار الإنسان لحمل الأمانة وهي حرية الاختيار بين الخير والشر، وقد شاءت الإرادة الإلهية الكلية والمطلقة أن يكون للإنسان الاختيار بين أصل الخير وأصل الشر (فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ) – الكهف 29 – ، إما الإيمان بالله أو الكفر، فمن اختار الإيمان وسلك سبيل الرسل والمؤمنين زادهم الله إيمانا وهداية ورشادا مِنَّةً منه وفضلا (وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ) – محمد 17 – وقوله تعالى (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى) – الكهف 13 – ، هذا هو الفضل من الله لمن قرر أن يسير في طريق الإيمان، وهذا هو العدل الإلهي المطلق (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) – الزلزلة 7،8 – ،فإما إلى الجنة ونعم الجزاء وإما إلى النار وبئس المصير.

ويكون هذا العطاء الرباني العظيم لمن سار في طريق الهداية، فالله تبارك وتعالى يمنحه الحكمة والتي هي جماع الخير من خلال الفهم العميق والدقيق لهذا الكتاب العظيم، القرآن الكريم، ويعينه على الاتباع لمنهجه القويم وسيرة النبي الكريم ﷺ، والعمل وفقا للتوجيهات القرآنية من أوامر ووصايا، والاعتبار بمصائر الغابرين ممن رفض الهدى وسلك سبيل الضلال، والانتهاء عن كل ما نهى القرآن عنه وحذر منه النبي الأكرم ﷺ ، فوافق فعله وعمله قوله أسوة بالرسول ﷺ ، حبا في الله ورسوله، وخشية من عقابه، وهذا لا يتعارض على الإطلاق مع حقيقة أن الله قادر على إيتاء الحكمة لمن يشاء ضمن العلم الأزلي أن هذا الذي شمله بهذا العطاء يستحقه، لأنه وحده من يعلم إخلاصه في طلب الهدى والإيمان، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ )، وتؤكد الآية على أن هذه المنحة الربانية هي أعظم ما يمكن أن يتحصل عليه الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لأنها الطريق لسعادة الدارين: الدنيا والآخرة.

(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ) حقا إنه لأعظم خير أن يكون المرء قادرا دائما على القول الفصل، وعلى اختيار الصواب في شئونه كلها، وأن يكون مثلا لأقرانه من الناس، وقدوة صالحة وحيَّة على صدق المنهج الرباني في: الخُلُق القويم، الجد والإخلاص في العمل، العمق في الفكرة، السداد في اختيار ما ينفع الناس، المبادرة لمساعدة الضعيف وذي الحاجة، الإيثار على النفس، الصبر والتضحية في سبيل الله ودفاعا عن المظلومين ونصرة للحق وقهرا للباطل، والثبات على المبادئ والقيم التي استخلصها من كتاب الله ومن نهج رسوله وهداه. ويأتي التأكيد مرة أخرى على ما جاء في ختام الآية 29 من سورة ص بأسلوب آخر هو أسلوب القصر (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، وكأنه يحثنا مرة بعد مرة على  التفكر والاعتبار والاتعاظ، وأولو الألباب هم فقط من سينتفع ويتذكر من بين كل الناس، أولو العقول المتفكرة السوية السليمة والتي لا تكلُّ ولا تملُّ من التدبر لكتاب الله كما مدحهم رسولنا الكريم ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وتغشتهم الرحمة وتنزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده”. وجاء في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال:” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”. وكذلك قوله ﷺ “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها”. متفق عليه.

ملاحظة: جاء في تفسير التحرير والتنوير: نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين. وقال كذلك أن الحكمة في نظر الدين أربعة فصول: أولها: معرفة الله حق معرفته، وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمى عند اليونان العلم الإلهي. الثاني: ما يصدر عن العلم به كمال الإنسان، وهو علم الأخلاق. والثالث: تهذيب العائلة، وهو المسمى عند اليونان علم تدبير المنزل. والرابع: تقويم الأمة وإصلاح شئونها وهو المسمى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية.

 

ومع الآية 81 من سورة آل عمران: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

تأتي هذه الآية بعد الآيات التي تحدثت عن النفي القاطع أن يكون قد صدر عن أي بشر بعد أن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة، الطلب من الناس أن يتخذوه إلها من دون الله، فهذا مُحال، ولا أن يعبدوا أحدا آخر من دون الله من باب أولى، فهذا مُحال كذلك، ثم يأتي الحديث هنا عن إيمان كل الأنبياء والرسل بالله، وببعضهم بعضا، وبهذا النبي الخاتم والكتاب الخاتم. فهذه سلسلة شريفة قد اجتباها الله واصطفاها لحمل أمانة رد الناس إلى سواء السبيل، وإلى عبادة الله وحده ربا وإلها، والسير على منهاج كتابه المتضمن لعناصر التوحيد الثلاثة الاساسية: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد العبودية له وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وله الأمر كله.

تبدأ الآية بخطاب موجه للنبي والمؤمنين معه ومن يأتي من بعدهم تاليا للقرآن (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) فالله يُذَكِّر النبي بهذه النعمة الكبيرة التي أنعمها عليه، ويخبره النبأ اليقين بما أخذ على النبيين، كل النبيين، بما فيهم جميع الرسل الذين أرسلهم الله إلى أقوامهم، من العهد المؤكد والميثاق، إنه ليس ميثاقا من بشر لبشر، بل من رب البشر، خالقهم ورازقهم، على هؤلاء المصطفين الأخيار بعضهم على بعض، وبالتبعية الميثاق على أممهم، هذا الميثاق القائم على العطاء الرباني (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)، فمهما أوتيتم من كتاب وحكمة، أو للذي أعطيتم من كتاب وحكمة، وكل نبي أو رسول كان يتبع كتابا من عند الله، وجميعها تقوم على قاعدة التوحيد التي ذكرناها آنفا، ولكل نبي شريعته ومنهاجه (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ) – المائدة 48 – ، وكل نبي آتاه الله الحكمة التي بها يقود قومه إلى الهدى والنور ويبعدهم عن الضلال والفساد، ثم سرتم على ما أنتم عليه من الهدى والنور زمنا أو أقوامكم من بعدكم (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ)، ثم بعث الله فيكم أو إليكم أو إلى أقوامكم من بعدكم رسولا بكتابٍ هو مصدقٌ لما آتاكم الله من الكتاب والحكمة، جاء بالتوحيد والعبودية لله وحده، وهنا يؤكد المفسرون على أن أخذ الميثاق في أول الآية هو قَسَمٌ، وإيتاء الكتاب والحكمة هو بمعنى الشرط عند بعض المفسرين، والجواب لهما معا هو (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ) هذا هو الميثاق: وجوب الإيمان بهذا الرسول الذي يأتيكم، وهذا العهد وهذا الميثاق قائم عليكم وعلى أممكم من بعدكم، والراجح من أقوال المفسرين أن المقصود بكلمة رسول هو النبي الأكرم محمد ﷺ، والذي جاء وصفه ونعته في الكتب السابقة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ..) – الأعراف 157 –، وفي قول عيسى u (وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ) – الصف 6 –، ثم وجوب النصرة له في مواجهته مع قوى الكفر والاستكبار، فهذا النبي جاء مصدقا لكم، وقد آمن هو ومن اتبعه بنبوتكم ورسالاتكم وكتبكم (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) – البقرة 285 – ، ثم يأتي التأكيد والتوثيق لهذا الميثاق من خلال المنهج الرباني والقرآني الذي يتكرر بصور مختلفة وأساليب عديدة لترسيخه في حياة المجتمع المسلم (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ)، ويبدأ هنا بالإقرار: هو أن يقر الإنسان على نفسه باي التزام أو ميثاق أو القيام بأي عمل أو قول، وكما هو المتعارف عليه قانونا في المجتمعات البشرية: – الاعتراف أو الإقرار هو سيد الأدلة -، وفي هذه الآية فالله Y هو الذي يطلب من النبيين الإقرار فيقرُّون بأخذهم الميثاق، وعلى العمل به حال مجيء الرسول، ويجيء التعبير القرآني بتأكيد إضافي على أخذ الميثاق (الإصر) وهو العهد المؤكد والموثق، وأصل الكلمة من الإصار وهو ما يعقد به ويُسَد به، ثم يضيف المولى Y أمرا أكثر رهبة ومهابة إنه الشهادة، فقد جاء في سورة الأنعام الآية 19 (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، والشاهد هنا هو رب العزة Y ، (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، إنها الشهادة أمام المولى تبارك وتعالى أنهم قد بلغوا أقوامهم هذا الميثاق، أو الشهادة على أنفسهم أمام الله امتثالا لأمره لهم والله معهم من الشاهدين، وهو أعظم الشاهدين.

هو المنهج الرباني كما ذكرنا يأتي في سياقات مختلفة في مواضع مختلفة ليكون بينا مؤكدا، لا لبس فيه، في زمان ومكان افتقر لأدنى مقومات الحضارة، وفي أمة افتقرت لأدوات العلم والمعرفة، فأصبحت بعد التمسك بهذا القرآن حاملة لمشعل الحضارة الإنسانية قرونا كثيرة، حتى إذا ما تباعدت عن دينها وكتابها وهدي نبيها عادت كما كانت قبل الإسلام، تتبع هذا أو ذاك ذليلة منكسرة حتى تغير ما أصابها، وتتمسك مرة أخرى بمنهج ربها وكتابها، وإنه لقريب بإذن الله.

 

وإلى الآية 54 من سورة النساء: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)

تأتي هذه الآية في سياق الحديث عن اليهود في جزيرة العرب، ومواقفهم من الدعوة الإسلامية الجديدة ممثلة بالنبي ﷺ والمؤمنين معه، فكان من ذلك تزكيتهم أنفسهم، زورا وبهتانا، ثم هم يؤمنون بالجبت والطاغوت رغم ما أوتوه من الكتاب، بل ويقولون لكفار قريش أنهم أهدى من المؤمنين بالله ورسوله، ثم يؤكد القرآن على خصلة من أسوأ ما تميزوا بهم عن غيرهم من الناس، وهي البخل الشديد والحرص على المال ومتاع الدنيا ولو أقل القليل، فقال في الآية السابقة لهذه الآية (أَمۡ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا)، والله هو الأعلم بهم، ويكشف خبايا قلوبهم، فلو كان لهم أي نصيب من الملك مهما كان كبيرا أو صغيرا فإنهم لا يعطون أحدا شيئا ولو كان بقدر النقير وهو النقرة على ظهر نواة حبة التمر، وهو ما يتنافى تماما مع حقيقة وجوهر المُلك، وتأتي هذه الآية لتعرض لخصلة سيئة أخرى من خصال اليهود، وهي الحسد  والتي تعني تمني زوال النعمة من الآخرين مهما كانت هذه النعمة، ومهما كان ما يملكون من مثيلها (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)، وأم هنا للإضراب بمعنى بل، ثم الاستفهام المحذوف بالهمزة وهو استنكاري لهذه الصفة القبيحة فيهم، والمقصود بالناس هنا على الأرجح هم الرسول وقومه من بني إسماعيل وخاصة من آمن منهم، فقد ذكر القرآن أن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا بنبيٍ هلَّ زمانه (…وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦ ۚ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ) – البقرة 89 – ، وكانوا يتمنون أن يكون هذا النبي منهم، فلما أرسله الله من بني إسماعيل كفروا به، وهذا هو موضوع الحسد (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ) هم يحسدون النبي والذين آمنوا معه على الفضل الذي آتاه الله إياهم باختيارهم لحمل هذه الرسالة الخاتمة إلى الناس أجمعين، وهذا الكره الشديد لما أصاب العرب من الخير رغم أن الله قد آتاهم الكتاب والحكمة والملك العظيم، والمقصود هم أبناء إسحاق من أبي الأنبياء إبراهيم u ، فقد جعل فيهم النبوة، لأن كل من آتاه الله الكتاب فهو نبي أو نبي رسول، والمقصود بالكتاب هو جنس الكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله واتبعتها الأنبياء منهم، كصحف إبراهيم وموسى والزبور والإنجيل، والحكمة هي الفهم والفقه وصواب القول والفعل، كيف لا والأنبياء هم المرجعية لأقوامهم في كل شئون حياتهم، وجعل فيهم المُلك والسلطان كما كان يوسف وداوود وسليمان، ورغم كل  ذلك فعندما اختار الله محمدا ﷺ من بني إسماعيل بن إبراهيم كفروا به وناصبوه العداء والبغضاء والحسد، بل والحروب العسكرية التي كان النصر فيها من عند الله للرسول ﷺ والذين معه على هؤلاء البخلاء الحسودين، وأقول والله أعلم (وهو ما أشار إليه رشيد رضا في المنار) أن هذا الفضل الذي آتاه الله نبيه ﷺ (وقد جاءت نكرة)، هي المقابل لكل ما آتى أبناء إسحاق من الكتاب والحكمة والملك، فكان القرآن الذي تكفل الله Y بحفظه إلى يوم القيامة، وهو المعجزة التي ما زالت قائمة أمام العالمين من الإنس والجن أن يأتوا بمثله، والحكمة التي علَّمها النبي ﷺ  للمؤمنين معه من فهمه وفقهه لهذا الكتاب، وهي ما حظيت بالحفظ والدراسة من جانب علماء الإسلام وعلماء الحديث، ثم المُلك القائم على الحق والعدل والذي استمر بعد وفاة النبي حينا طويلا من الدهر رغم أفول شمسه مؤقتا، فستعود للسطوع ثانية في سماء البشرية عالية منيرة بنور ربها، أما رسول الله ﷺ فقد تحقق له في حياته جوهر الملك دون تسميته بذلك، فقد كان هو الذي يسوس الناس في كامل شئون حياتهم المدنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والقانونية، مع الحب الشديد من المؤمنين للنبي ﷺ ، فهذا عروة بن مسعود الثقفي عندما التقى النبي ﷺ يوم صلح الحديبية يقول لقريش واصفا أتباع النبي كما رآهم: – يا قوم، إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه؛ والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ فيفعل – ، وهي كذلك الطاعة لله فيما أمر به المؤمنين من طاعة الرسول ﷺ ، وهي كذلك دليل الحب لله (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ..) – آل عمران 31 – ، أما الملك الذي آتاه الله بني إسرائيل فلم يعمر أكثر من 80 عاما في أقصى فتراته، وكان استجابة لدعوة نبي الله سليمان (قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَّا يَنۢبَغِى لِأَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ) – ص 35 – . هؤلاء هم اليهود وهذه هي بعض صفاتهم في هذا الموضع من القرآن الكريم، وما زالت هذه صفاتهم إلى اليوم الذي وصل فيه الصراع بين جبهة الحق وجبهات الباطل إلى مداه الأوسع تمهيدا لنصر الله القادم بإذن الله، والله على كل شيء قدير.

 

وإلى الآية 113 من سورة النساء: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)

جاءت هذه الآية في إطار تحقيق أهم قيمة من القيم الاخلاقية التي تحكم علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، هذه القيمة هي أساس المُلك: العدل، لا محاباة لقريب أو عضو في الحزب أو الجماعة أو العشيرة. فالناس سواء أمام القانون، لا ظلم لأحد سواء كان صغيرا أو كبيرا، ضعيفا أو قويا، فقيرا أو غنيا، امرأة أو رجلا. فقد روي أنها نزلت في أحد المسلمين الذي ارتكب سرقة ثم أراد أن يلقي التهمة على رجل آخر (غير مسلم وقيل مسلم)، وجاؤوا إلى رسول الله ﷺ لهذا الغرض، فعصمه الله منهم (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)، فجلسوا إلى الرسول ﷺ محاولين تبرئة ساحة من ارتكب السرقة بحجة أنه مسلم مخلص وأن الآخر غير مسلم، ولكنَّ الله تبارك وتعالى ينزل على رسوله هذه الآيات التي تفضح أفعالهم السيئة وتكشف ما يبيتون من أذى الأبرياء، وأن هذا هو بفضلٍ من الله ورحمة به أن يحيد عن الحق قيد أنملة لعدم وجود الدليل مع المظلوم، ولكنَّ الله معه ومع الحق والعدل، ربما جال بخاطر بعضهم أن يبرئوا ساحة صاحبهم، ولكنهم لم ينظروا في عاقبة فعلتهم هذه، وأن ما قاموا به هو جريمة كبرى في حق رسولهم الكريم، أن يبعدوه عن الحق والعدل، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ) أما الحقيقة التي غفلوا عنها هي أن ما فعلوه هو إضلال لأنفسهم وإبعاد لها عن الطريق القويم الذي يجب أن ينشر بساطه على الناس سواء، وأن الله قد حرَّم الظلم على نفسه، وأمرنا ألَّا يظلم بعضنا بعضا، فكيف نظلم البريء بجرم لم يعمله، فالشيطان سوَّل لهم وزيَّن لهم فساروا في ركابه، ولكن الله عصم نبيه من كيدهم، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه) – فاطر 43 –، وما زالت رحمات الله تنشر نفحاتها على رسوله (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ )، فالله يعصمك من الناس فلا يصل أي شيء من الضرر إليك بقدرته وبفضله، (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) – المائدة 67 –، ثم يفيض الله من فضله على رسوله (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ)، والقرآن يذكِّر النبي ﷺ بمزيد فضله بإنزال هذا القرآن، المعجزة الخالدة ما دامت السماوات والأرض بحفظ الله له، وكذلك الحكمة المتضمنة في كتاب الله، ففهمها وفقهها وعمل بها في دعوته للناس، فكان خير الناس قاطبة من لدن آدم إلى يوم الدين خلقا وخُلُقا، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس باقتدائها به، ولا تزال الزيادة تشمله فيعلمه ما لم يكن يعلم سواء من القرآن أو مما يلهمه علمه من أحوال الناس في الدنيا أو الآخرة، ثم يأتي التعقيب الأخير شاملا كل ما سبق من الحفظ والعصمة والكتاب والحكمة والعلم (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، هو تقرير لكل ما تفضل به رب العزة على حبيبه المصطفى، والذي قرن محبة الناس له باتباع نبيه (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ) – آل عمران 31 –، بل إنه اختصه بالصلاة عليه وأمر الناس بذلك (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) – الأحزاب 56 – وأخيرا وليس آخرا فقد جعله القدوة والمثال لمن أراد الدار الآخرة ونعيمها (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) – الأحزاب 21 – .

 

وإلى الآية 39 من سورة الإسراء: (ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)

تأتي هذه الآية كتعقيب أخير على مجموعة آيات سردت جانبا من الحكمة التي أنزلها الله في كتابه العزيز، والتي سبقتها آية أكدت على توحيد الألوهية وهي الآية 22 (لَّا تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا) مع بيان عاقبة الشرك الأكبر في الدنيا وهما الذَّم والخذلان، ثم جاءت الآية 23 بتوحيد الربوبية وتوحيد العبودية في صدرها وذلك بصيغة جازمة قاطعة لا تقبل المجادلة أو المحاورة حولها (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ…)، إنه القضاء الرباني، وعندما يقضي الله أمرا فلا خيار (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ…) – الأحزاب 36 – لا خيار سوى الطاعة التامة لهذا القضاء، وكان قضاء الله في هذه الآية والآيات التالية لها هو ما فيه مصلحة للعباد، كل العباد، في كل زمان وفي كل مكان، ولذلك قيل إن هذه الأوامر والنواهي قد وردت في كل الكتب السماوية، وقيل إنها سميت بالوصايا العشر، ثم جاء التعقيب على كل ما سبق من الآيات بهذه الآية موضع البحث: (ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ).

تبدأ الآية باسم الإشارة ذلك مشيرة إلى كل ما سبقها من الآيات من الآية 23 وحتى الآية 38، بكل ما اشتملت عليه من أمر بأنواع الخير والبر، ونهي عن صنوف الشر والآثام، فهذه كلها من حقائق الحياة التي لا يماري في خيرية خيرها أو سوء سيئها عقل سليم يبحث عن الحق فيقبله وعن الشر فيعرفه ويبتعد عنه، وهذه هي الحكمة، والتي تؤدي إلى العمل بالخير والبعد عن الشر، وهي جزء مما أنزله الله في كتابه العزيز بواسطة أمين الوحي جبريل u ، مع التأكيد مرة أخرى على توحيد الربوبية بكون الوحي من (رَبُّكَ)، (مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ) من هنا للتبعيض لكون ما سبق هو بعض الحكمة وليس كلها، فالكتاب شامل لحكم كثيرة علَّمها الله رسوله الكريم ﷺ ، وعلَّمها الرسول الكريم لأمته من بعده، فما عليها إلا اتخاذه قدوة وأسوة حسنة، وتعود الآية بعد ذلك إلى ما بدأنا به حديثنا عن الآية 22 (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ) للتأكيد أيضا مرة أخرى على توحيد الألوهية، لأن الحكمة دون توحيد الربوبية والألوهية لا تنفع صاحبها أبدا، سواء في الدنيا أو الآخرة، لأننا كما نرى: استباق آيات الحكمة بالتوحيد وختمها بالتوحيد، لأنه السياج الحامي من الرياء والنفاق والكبر، وهي أشد أمراض النفس التي تفتك بصاحبها وتورده موارد الردى، أما إذا ما استجاب لنوازغ الشيطان (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) فالعاقبة في الآخرة هي ورود جهنم ولكن بصورة مهينة شديدة الاحتقار، إنه يُلقَى من علٍ إلقاءً زيادة في الإهانة والعذاب، ثم يكون هناك اللوم (مَلُومًا) يلوم نفسه وتلومه الملائكة على تفريطه في حق الله، مطرودا ومُبعدا عن رحمة الله التي وسعت كل شيء، وقد أشار صاحب البحر المحيط إلى المقابلة بين الذم والخذلان مع اللوم والطرد والإبعاد، فذكر أن الشرك أوله في الدنيا الذم والخذلان وآخره في الآخرة اللوم والطرد من رحمة الله، فهكذا يكون تكامل المنهج القرآني العظيم القائم على أساس التوحيد، وعلى رعاية مصالح الناس والمجتمع من خلال الالتزام بقواعد الحكمة الربانية التي تمثلت خير تمثيل في رسولنا الكريم ﷺ، وفي الرعيل الأول الذين رعاهم وهذب سلوكهم رسول الرحمة ﷺ .

 

وإلى الآية 12 من سورة لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)

يخبرنا المولى U في هذه الآية عن عطائه وفضله الذي أفاضه على عبد من عباده كما هو رأي جمهور المفسرين، وأن هذا الرجل لم يكن نبيا من  الأنبياء. فهذا العبد الصالح توجَّه إلى الله تبارك وتعالى بخالص نيته، وصالح أعماله، وحسن أخلاقه من الصدق والأمانة فكان وعاء صالحا لفيض رحمة الله، ومنحه من الحكمة التي شرح الله صدره وعقله لفهمها وفقهها، فعمل بها بحقها (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)، وقد وردت روايات كثيرة في أصل هذا الرجل وعمره وشكله ولكن لم يثبت منها شيء، ولا تضيف إلى المعنى المقصود شيئا فلا نعلق عليها، بل إن إيراد اسمه دون تحديد يثير في الناس روح التنافس لفعل ما اجتهدت إليه هذه النفس الزكية والهمة العالية لترتقي إلى هذه المكانة السامية، شرف الحصول على العطاء الرباني للحكمة: من صوابية الرأي وصوابية الاجتهاد، في الزمان الصواب والمكان الصواب والإنسان الصواب، وهذا كله يقتضي من صاحبه الشكر (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ) وهذا ذروة سنام الحكمة، أن تشكر مَن أحسن إليك، ومَن أعظم إحسانا من رب العالمين حين يعطي الحكمة لإنسان؟! فحقٌّ عليه أن يؤدي شكر هذا الإحسان وهذا العطاء الكبير، وذلك لا يكون إلا بالطاعة الكاملة لله كأكمل وأحسن ما تكون، في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه، وكل ما أوصى به وقضى به، مع  التحلي بالأخلاق الحميدة مع كل من حوله من الناس، وهذا الشكر لا تعود مآلاته على رب العالمين (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ) فهو الغني عن الناس، لأنه المُعطي الذي لا تفنى خزائنه، بل تعود عاقبة الشكر على الشاكر نفسه: في الدنيا أن يعيش حميدا، وفي الآخرة أن يُخلَّد في الجنان، وفي المقابل (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، والكفر هنا هو كفر النعمة وعدم شكرها، وعدم أداء حقها من الطاعة والاستسلام لله رب العالمين، فمن مبادئ العلاقات الاجتماعية بين الناس أن تشكر من أحسن إليك، وللربط بين شكر الله وشكر الناس قالوا: لا يشكر الله من لا يشكر الناس، ولكن المنهج القرآني يحثنا على درجة أعلى من مجرد مقابلة الإحسان بالإحسان بل مقابلة السيئة بالحسنة (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) – فصلت 34 – ، وهذا أعلى درجات الشكر للناس، أما من أبى ذلك وكفر النعمة التي يسديها إليه الناس، وكذلك التي ينعم بها الله عليه فإنه لا يضر إلا نفسه، لأن الله غني عن عباده، فهو الخالق الرازق، المحيي المميت، وهو الحميد بمعنى المحمود في ذاته وصفاته، سواء شكره عباده كلهم أو جحدوا نعمه، فهو العظيم في ذاته، الكريم في عطائه، العزيز في جبروته وقوته، وهو العزيز الحكيم.

 

وإلى الآية 20 من سورة ص: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)

جاءت هذه الآية في سياق ذكر قصة داوود u ، والتي أمر الله رسوله الكريم ﷺ بتذكرها لتشابه ما بينهما من جانب الصبر على أذى المشركين والمعاندين، فقد عانى داوود u من بني إسرائيل وما كان منهم قبل أن يؤتيه الله الملك والقوة على العبادة والطاعة، واللتين هما مما يستعين بهما الرسل للقيام بأعباء الرسالة، فقد جاءت الآية 17 (اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، وذكر القرآن بعدها ما أنعم الله به على داوود من الفضل العميم جزاء الصبر والعبادة من الصوت الرخيم في تسبيحه حتى سبحت معه الجبال والطير بالكيفية التي يعلمها الله Y ، ثم جاءت هذه الآية لوصف حال هذا النبي العظيم من أنبياء بني إسرائيل، حيث اختصه من بينهم بثلاث خصال: الأولى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ)، فقد أورد القرآن الكثير من صفات بني إسرائيل منذ رسالة موسى u والتي تميزت بأنهم لا يخضعون إلا لمنطق القوة، فخضعوا لموسى على مضض رغم شدته وبأسه، ولم يخضعوا لهارون رغم نبوته ورسالته، فعبدوا العجل رغم كونه بين أظهرهم، ومن بعد موسى وحتي داوود u انفصل الملك عن النبوة، فكانوا يخضعون للملك في حياتهم السياسية ويرجعون للنبي في حياتهم الدينية، وربما كان هذا أحد أسباب جرأتهم على قتل الأنبياء منهم بغير الحق (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ) – آل عمران 112 – ، بل ولم يسلموا لمُلك طالوت حتى جاءهم التابوت (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) – البقرة 248 – ، ومن هنا أمدَّ الله نبيه داوود بما يشد ملكه وسطوته وسلطانه على بني إسرائيل أولا، وزاده هيبة في قلوبهم فاستقاموا معه على مضض، متهمين إياه من آن لآخر بتهم مختلفة مسيئة له ولمكانته النبوية ولكن الله عصمه منهم، وزاد في ملكه حتى بلغ شأنًا عظيما وملكا واسعا، امتد لما يقارب أربعين عاما حسب بعض الروايات، ومن دعائم الملك: العدل والمساواة والرحمة فكانت الخصلة الثانية (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ)، فكان عطاء الله له الحكمة، والتي هي الركيزة التي يقوم عليها دوام الملك، وتهذب من السلطة التي قد تغري صاحبها بالانحراف عن الحق والصواب، ثم زاده الله الخصلة الثالثة (وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، وهذه القدرة هي من تمام الملك والحكمة حيث كان قادرا على الفصل في كل المنازعات التي تصل إليه بالعدل والإنصاف، ثم الحزم بإنفاذ ما قضى به دون محاباة أو مساومة، وقيل المراد بفصل الخطاب هي البلاغة في الكلام عند خطاب الناس والحديث إليهم، واضحا بينا دون إسهاب ممل أو اختصار مُخِل. هذا شأن نبي الله داوود u في بني إسرائيل، فكيف كان شأن محمد بن عبد الله ﷺ في أصحابه وأتباعه؟ الخلاف واضح بين بني إسرائيل وأصحاب الرسول ﷺ ، فبدلا من الخضوع للقوة كانت المحبة الخالصة التي كانت تفتدي نبيها بمهجهم وأبنائهم وأموالهم، فكان خضوع جوارحهم لإشارة من النبي قبل قوله، وهذا من أعظم المُلك أن تملك القلوب، وأوتي من الحكمة قبل البعثة وبعدها ومما اشتمل عليه القرآن الشيء الكثير، وامتدحه ربه بالخلق العظيم، ووصفه بالرأفة والرحمة بالمؤمنين وهما صفتان من صفاته U ، وامتدت رسالته للناس كافة وليس لقومه خاصة، وأوتي جوامع الكلم كما قال عن نفسه، فقد جاء في صحيح مسلم: ” فُضِّلتُ على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون “.

الكاتب: الدكتور محمود شاكر