كلمة الحكمة في القرآن الكريم.. قَبَسٌ مِنْ نُورِ القُران (4)

قَبَسٌ مِنْ نُورِ القُران

كلمة الحكمة في القرآن الكريم

منهج حضارة

الجزء الرابع

 

المجموعة الثانية التي تضمنت كلمة الحكم/حكم:

أ‌.   عطاء وهبة في سياق التكوين الخاص للرسل: يوسف 22، مريم 12، الشعراء 21، 83، القصص 14

 

ومع الآية 22 من سورة يوسف: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

الحديث هنا عن بدء مرحلة جديدة من حياة هذا النبي الكريم u بعد أن انتهت مرحلة الطفولة في ظل هذا البيت الوارف الظلال، والذي وجد فيه من الكرامة والإنعام من أصحابه ما يليق بمكانته عند الله تبارك وتعالى، وهو جزء من رعاية الله له بعد ما عاناه من كيد إخوته وحسدهم له، وهو ما صوَّرته الآيات الأولى من هذه السورة، وللعلماء والمفسرين آراء كثيرة في بلوغ الأشُدّ: من بلوغ الحلم وحتى سن الثالثة والثلاثين أو حتى الأربعين، وهي ليست الهدف من القصص القرآني، تماما كما لم يكن الهدف اسم صاحب البيت الذي رأى بفراسته نبوغ وكرامة هذا الغلام عندما ضمه إليه آملا أن ينفعه أو يكون ولدا له، ولكن الأمر أن الله تبارك وتعالى قد علم أنه استحق الآن أن يحصل على الجائزة (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ) إنها التوفيق لكمال رجحان الرأي والفقه والفهم: إنها الحكمة، والتي هي أعظم منحة من الله لعبد من عباده، تكون القاعدة التي يقوم عليها نبوغ الرجل في كل أفعاله وأحكامه وسياسته لأمور من حوله، وإضافة إلى ذلك زوده ربه بالعلم النافع في شئون الحياة والناس في حاله وقابل ايامه، تمهيدا للدور الكبير الذي سيقوم به في حفظ حياة شعب مصر ومن حوله من الشعوب عندما جاءت السنون العجاف، فسار بالناس سيرته العادلة الحكيمة عن علم واسع وأمانة راسخة، ثم يأتي القرآن بسنة من سنن الله في المجتمعات البشرية (وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فهذا العطاء الرباني هو جزاء لكل من توجه إلى الله بخالص العمل وبخالص القصد وبالإتقان والتفاني لأجل رفعة أهله وقومه، من أجل تحقيق السعادة لهم بالتفكر العميق فيما يخفف من أعباء الحياة عليهم، وبالإجمال: الإحسان، فكان من المحسنين، ويتفاوت العطاء حسب درجات الإحسان، والأنبياء يتبوؤون أعلاها، وتكون الحكمة في أكمل مضامينها وصورها، ولكنه قائم لكل مجتهد في هذه الحياة الدنيا فيبرز القادة العظماء، والعلماء النابغون في شتى المجالات بتوفيق الله لهم على ما يبذلونه من جهد وفكر في كل ما سخر الله لنا في هذا الكون، هذا في الدنيا، أما في الآخرة (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) – النساء 40 –.

 

وإلى الآية 12 من سورة مريم: (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)

تأتي هذه الآية في سياق سورة مريم، وكأنها تقدمة لها بذكر جانب من جوانب الإعجاز الرباني والقدرة الإلهية على الخلق خارج سياق القوانين التي تعمل في الناس، من حيث العمر والسن التي يكون عليها الرجل  والمرأة حين الإنجاب والحمل، فكيف بمن تكون عاقرا، وفي سن اليأس، وقد بلغ الرجل من الكِبَر عتيا، ولكنها القدرة الإلهية (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ) – النحل 40 – ، ثم يمتد العطاء إلى الاسم (يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُۥ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) – مريم 7 – ، فلم يسبق في الكون كله أن كان هناك من تسمَّى بهذا الاسم، وفي هذه الآية ينتقل الخطاب من زكريا إلى هذا المولود بعد أن يكون قد ولد ومر بمرحلة الطفولة فأصبح صبيا، فَيَمُنُّ الله تعالى عليه بهذا العطاء العظيم: الحكمة، وعبَّر عنها بلفظ الحكم، الفهم والفقه للكتاب والتوفيق للعمل به، ثم يكون قد وصل إلى مرحلة تؤهله للعمل والتكليف فيأتيه الخطاب من الله دون تحديد للكيفية (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ)، عاش يحيى u في بني إسرائيل في فترة من التراخي والتكاسل عن الأخذ بالتوراة، فأراد الله لهذا النبي أن يكون القدوة والمثل، ومن بعد أبيه زكريا قائدا ومرجعا لهم، ولهذا كان عليه أن يعمل بالكتاب بكل جد وقوة وثبات واصطبار على ما سيواجهه من هذه القلوب القاسية والعقول المعاندة والمنطق الملتوي عن الحق، عليه التمسك بما جاء في التوراة نقية طاهرة كاملة دون تحريف أو تأويلٍ مخرجٍ لها عن مقاصدها الربانية الخالصة، وذلك بعد أن ميزه الله عن إخوته من الأنبياء جميعا بإيتائه الحكمة في صباه، إنه الإعداد الخاص له في هذه البيئة الخاصة. وذلك هو الفضل الرباني عليه وعلى أبيه من قبل واستجابة لدعائه بالذرية الطيبة.

 

وإلى الآية 21 من سورة الشعراء: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)

سورة الشعراء من بين السور التي اشتملت على قصة موسى مع فرعون بصورة مفصلة، وفي كل مرة تكون الزاوية التي يتركز فيها الحديث مختلفا، حتى تكتمل الصورة الكلية بأساليب غاية في البلاغة والإيجاز غير المخل بالهدف من القصص القرآني من العبر والحِكًم التي ترسم المنهج القرآني في الدعوة إلى الله، وبيان سنن الله في المواجهة بين الحق والباطل، وسنن الانتصار الذي وعد الله به رسله (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ)       – غافر 51 – ، وقد جاءت هذه القصة في 57 آية ابتداء من الآية العاشرة وحتى الآية 66، وقد جاءت موزعة على العديد من المراحل، المرحلة الأولى من الآية العاشرة وحتى السادسة عشر وهي مرحلة الاصطفاء والتكليف بالرسالة، ثم مرحلة الحوار مع فرعون وذلك من الآية السابعة عشر وحتى التاسعة والعشرين (13 آية)، فكانت الآية 21 موضوع البحث هي الخامسة في هذه المرحلة سبقتها أربع آيات وتلتها ثماني آيات. وموسى u في هذه الآية والآية السابقة لها يجيب على تساؤلات فرعون التهكمية منه، وتذكيره بما كان من نشأته في قصره ثم قتله القبطي وكونه من الكافرين -حسب كلام فرعون-، فكانت إجابته أنه قد فعل ما فعل بالقبطي حال كونه من الجاهلين بأنَّ وَكْزّهُ القبطي سيؤدي إلى مقتله، وأنه لم يكن على شريعة واضحة المعالم تبين له الحق من غيره، ثم حدث تآمر القصر والملأ عليه ليقتلوه فقرر الهرب من مصر (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)، فأنتم من أجبرني على الخروج من مصر بسبب ظلمكم للناس وتطاولكم عليهم، ولو بقيت لكان هناك خطر على حياتي، فقد خفت منكم ففررت.

وهنا وقفة، من خلال تتبع حياة الرسل في القرآن الكريم، فإنه لم يكن من بينهم من عاش حياة الترف والبذخ وجاءه التكليف بالرسالة وهو على ذلك، فهذا يوسف عليه السلام وقبل أن يتم تكليفه بالرسالة ورغم حياته كموسى عليه السلام في بيت مترف (عزيز مصر) وموسى في (قصر الملك) إلا أن يوسف يمر بالامتحان العسير، ثم يقضي سنوات عجاف في سجون مصر، وهذا موسى بعد هذه الفترة المترفة في القصور الملكية تأتي هذه الحادثة لتكون سببا في ترك الترف، والخروج لبدء مرحلة من المعاناة والبساطة والكد والتعب والتأمل، فرعى الأغنام في مدين سنوات طويلة (8 -10)، هي مرحلة الإعداد للرسل لحمل هذه الأعباء الضخمة، وأثناء ذلك (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) يمنح الله تبارك وتعالى هذا العبد المجتبى الحكمة والفهم والصواب (…وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) – طه 39 – ، هي هبة الله تعالى لنبي ورسول المستقبل في مرحلة الإعداد والتأهيل لتلقي الوحي الإلهي، وللتكليف بالرسالة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وذلك بعد وفائه للشيخ الصالح بما عاهده عليه من الخدمة مقابل الزواج من ابنته، وكان ذلك وهو في طريق عودته من مدين ومروره بجبل الطور كما جاء في مواضع أخرى. هذا هو المنهج الرباني في تأهيل الأنبياء والرسل لحمل أمانة الدعوة إلى الله، فما على الدعاة والمفكرين إلا أن يسيروا على هذا النهج بالكدح والجد في فهم حقائق وعلوم الدنيا، واستنباط السنن التاريخية والاجتماعية من الكتاب الكريم والهدي النبوي ليكون معيارا لهم في طريق ذات الشوكة، وتحقيق العزة والكرامة لهذه الأمة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها.

 

وإلى الآية 83 من سورة الشعراء: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

بعد أن آتى رب العزة يوسف حكما وعلما، ويحيى الحكم، جاء الفعل وهب: فوهب حكما لموسى ثم لإبراهيم عليهم السلام أجمعين. جاء دعاء إبراهيم u بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله في خمس آيات بخمس صفات: الهداية، الرزق، الشفاء، الموت والحياة وأخيرا المغفرة يوم الدين، ويعلمنا القرآن هنا هذا المنهج في الدعاء: أن تثني على الله بما هو أهله ثم تدعوه بما تشاء، وهو ما علمنا إياه نبينا ﷺ في الدعاء عقب أداء الفرائض باعتبارها من صميم الثناء على الله تبارك وتعالى، هي الحياة الروحية للقلوب حتى نستعين بها لمواصلة القيام بأعباء و واجبات الاستخلاف في الأرض. وهكذا نجد أن إبراهيم u بدأ دعاءه بأن يهبه الله، وهي من أرقى أساليب التأدب مع الله Y ، فلم يطلب أن يعطيه أو أن يؤتيه بل أن يهبه، وكأنه رغم كل ما يقوم به لم يبلغ حد إيفاء حقوق الله عليه، وكأنه يقول إن هناك المجال للمزيد لكي أقترب من مكافأة نعم الله عليَّ ولن أستطيع الوصول إلى ذلك، (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) وهي الحكمة على رأي غالبية المفسرين، وبعضهم قال النبوة وهو لا يستقيم حيث قد كان أوتي النبوة كما قال أبو عبد الله الرازي فيما ذكره صاحب البحر المحيط: – لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة – ، والحكمة لا تنتهي آفاقها من الفهم والفقه والصواب والعمل بكل ذلك، ثم دعا أن يوفقه الله لصالح الأعمال في حياته حتى يكون أهلا للحاق بالصالحين من عباده (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، فهذه الدرجة لا تكون بالتمني ولا بمجرد الدعاء بل بالعمل المتواصل بما يرضي الله حتى يلقاه على ذلك، هو لا يريد شيئا لدنياه، بل ارتقى إلى ما يرفع قدره عند ربه مخلصا له حياته ومماته وصلاته ونسكه، هي أرقى درجات حاجات الإنسان القيمية وليست المادية، فلم يطلب صحة ولا مالا، بل ما ينفعه في آخرته، وهذا ما أكمل به دعاءه في خمس دعوات: حكما ولحاقا بالصالحين، ولسان صدق في الآخرين (وهما في الدنيا)، ثم دخول الجنة، والمغفرة لأبيه، وأخيرا السلامة من الخزي يوم الدين (وهذه الثلاث دعوات في الآخرة). وهذا الدعاء هو كما دعا الرسول ﷺ  وهو على فراش الموت: ” بل الرفيق الأعلى” وليس فقط في الصالحين، وقبل ذلك كان دعاؤه ﷺ : اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين” كما جاء في تفسير ابن كثير.  وقد استجاب الله دعاء إبراهيم u (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) – النحل 122 –.

 

وإلى الآية 14 من سورة القصص: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

تأتي هذه الآية سابقة للآية التي تحدثت عن الحدث الذي أدى لفرار موسى u من مصر، وهي لا تفيد الترتيب والتعقيب كما هو الحال في سورة الشعراء في الآية السابقة أعلاه من أن هبة الحكم والعلم كان بعد الفرار وليس قبله، بل تأتي في سياق تحقيق الوعد الذي اشتمل عليه الإيحاء لأم موسى في الآية السابعة من هذه السورة (وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ) فأعاده الله إليها، ونما في حجرها ثم عاش ردحا من الزمن في رعاية فرعون، فهي من باب استكمال هذا الوعد، ثم تتابعت القصة في هذه السورة بما حدث من قتل القبطي والفرار إلى مدين وما كان من أمره مع الرجل الصالح وابنتيه.

والمقارنة بين هذه الآية وبين الآية المشابهة لها تماما، والتي جاءت في حق يوسف عليه السلام، وتم الحديث عنها أعلاه في الآية 22 من سورة يوسف هو زيادة كلمة (وَاسْتَوَىٰ) في حق موسى u ولم تكن موجودة في حق يوسف u ، ويقول ابن عاشور في التحرير والتنوير في ذلك: – وأن الاستواء: كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع ” فاستغلظ فاستوى على سوقه” ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة، لأن موسى كان رجلا طُوالا كما في الحديث ” كأنه من رجال شَنُؤة”  فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزُه القبطي قاضيا على المكُوز. والحكم: الحكمة، والعلم: المعرفة بالله. ا.ه. . وأنا أرجح ما قاله ابن عاشور وأضيف إليه ما يقدح في ذهني من الفرق بين القوم الذين أرسل إليهم أو عاش بينهم يوسف u وكانت دعوته إلى الله بينهم وهم أهل مصر، وبين بني إسرائيل والذين وصف القرآن الكريم كثيرا من خصالهم وما فعلوه مع هارون u النبي الرسول ومع موسى u، بل وطلباتهم التي وصلت إلى أن يطلبوا رؤية الله جهرة (إِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ)   – البقرة 55 – ، فكانت حكمة الله أن يكون استواء موسى بقوة بدنية وعقلية، والتي كان هذا مثالها في القضاء على القبطي بوكزةٍ لم يكن يتوقع هو نفسه (موسى) أن تكون قاضية عليه، وهذا ما كان بنو إسرائيل بحاجة إليه من الشدة والقوة والبأس والذي جعلهم يرهبون جانبه بخلاف هارون عليهما السلام، أما أهل مصر فلم يكونوا بحاجة إلى مثل هذه القوة البدنية، حيث أنهم أكثر قبولا للقول والحوار، ويوسف نفسه كان في موقع السلطة والقرار بعد خروجه من السجن، وكما يُروى أن الملك نفسه آمن ليوسف فكانت دعوته أسهل، وانقياد الناس له أسلس من انقياد قوم موسى لموسى u. وهكذا نرى الإعجاز القرآني في كل كلمة في مكانها حتى لو تشابهت الآيات، ولكن مرادها يختلف ويتناسب مع السياق الذي تأتي فيه. وإنه لكتاب عزيز حكيم.

وهكذا نرى أنها جاءت في سياق قصص أربعة من الأنبياء وهم يوسف ويحيى وموسى وإبراهيم عليهم السلام، في إطار إعدادهم لحمل الرسالة وكجزاء لإحسانهم كما ورد مع يوسف وموسى عليهما السلام، وصبيا كما مع يحيى وهو المولود والمسمى إعجازا وقدرة وجزاء حسنا من الله لنبي الله زكريا u ، ثم دعاء من أبي الأنبياء إبراهيم u. وقد وردت نكرة معهم عدا يحيى فإنها جاءت معرفة بأل التعريف والله أعلم بالمراد وربما كان ذلك كونه صبيا.

 

ب‌.   إيتاء (عطاء) في سياق التدافع والدعوة: آل عمران 79، الأنعام 89، الرعد 37، الأنبياء 74، 79، الجاثية 16.

 

وإلى الآية 79 من سورة آل عمران: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)

تأتي هذه الآية في سياق الآية السابقة لها والتي تحدثت عن قبح أفعال فريق من اليهود في ليِّ أعناق مضمون ما جاء في كتابهم لإيهام الناس أنه من الكتاب وليس كذلك، ويقولون على الله الكذب عن علم وقصد، والآية التالية لها والتي تنفي أن أي نبي أو رسول يمكن أن يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، بل إنه سيأمر بتوحيد الألوهية والعبودية، والذي هي جوهر دين الرسل جميعا، وهو ما اشتملت عليه جميع الكتب السماوية التي أنزلها الله Y  على رسله الكرام.

تبدأ الآية بالنفي المطلق لأي قدر من الاحتمالية ولو مثقال ذرة، أن يقوم أي ٌّ من البشر وعلى وجه الخصوص ممن اجتباهم الله واصطفاهم من بين الناس جميعا ليكونوا أهلا لتحمل الكتاب والحكمة والنبوة (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)، وكلمة بشر هي جمع ولا مفرد لها، ولكنها هنا تعبر عن المفرد والذي هو جنس البشر (أبناء آدم u) والمقصود هنا كما قال المفسرون إما عيسى u أو رسول الله محمد ﷺ، أو أي من البشر من غير الأنبياء من علماء وحكماء الأمم الذين ساروا على نهج الأنبياء، وعلموا من الكتاب المنزل إليهم، ومن الحكمة المشتملة عليه وعملوا بمقتضاها، هؤلاء جميعا يستحيل في حقهم أن يقولوا على الله غير الحق مما وجدوه في الكتاب، ومما فقهوه من الحكمة (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) فهذا مستحيل تماما، أن يقول للناس الذين أرسله الله إليهم: اعبدوني أنا ولا تعبدوا الله، أطيعوني ولا تطيعوا خالقكم ورازقكم، فدرجة النبوة والرسالة تقتضي الأمانة في التبليغ، كيف وهم مَن كانوا بين أظهرهم (أقوامهم) معروفون بالاستقامة والصدق والأمانة، فهل يصْدُقون مع الناس ويكذبون على رب الناس وهم أعرف الناس به وبعظمته وجلاله، باليوم الآخر وما فيه من النعيم والعذاب؟! أما حقيقة قول هؤلاء الأنبياء والرسل والعلماء من بعدهم هو قولهم (وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، وكلمة ربَّاني وهي مفرد ربانيين فتعني العلماء والحكماء العاملين المخلصين في العلم والعمل لله رب العالمين، فهم القائمون على تربية الناس على كل أعمال البر والخير، وعلى ما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة شاملا ذلك إدارة أمورهم وسياستها ضمن أوامر الله ونواهيه، وهي كذلك مشتقةٌ من كلمة رَبَّ يَرُبُّ بمعنى يربِّي ويوجه، أو هي من النسبة إلى رب العالمين، وذلك من خلال الانقياد والطاعة الخالصة في اتباع منهجه وكتبه ورسله، فهو ربَّاني، والمعنيان متقاربان في عبادة الله وتوحيده بعيدا عن اتخاذ أيٍّ من البشر ربا وإلها، وفي القيام على تغيير الناس نحو الفلاح في الدنيا والآخرة، وليكونوا ربانيين فعليهم سلوك الطريق الموصل لذلك (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ويقول الشعراوي في ذلك: – إن العلم هو تلقي النص المنهجي، والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي – ا.ه.  فالربانيون يقومون على تعليم الناس الكتاب الذي أنزله الله على رسلهم، أما الدراسة فهي القراءة المتأنية المتكررة المتفكرة والباحثة في ما وراء النص من الحكمة والأحكام، ومن الشرائع والوصايا والتوجيهات والسنن التي تصل بالناس إلى رضا الله. وهذا مصداقا لحديث رسول الله ﷺ (وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة… – رواه مسلم.

 

 

 

وإلى الآية 89 من سورة الأنعام: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).

تبدأ هذه الآية بكلمة (أُولَٰئِكَ) وهي اسم إشارة للبعيد، وهي هنا مبتدأ لأن الجملة استئنافية، وتتحدث عن هذه الثلة من الأنبياء والرسل الذين جاء ذكرهم بدءا من الآية 83 والتي تحدثت عن إبراهيم u، وهم 18 رسولا ونبيا، غالبيتهم من ذرية إبراهيم u، ثم جاء الخبر مكونا من (الَّذِينَ) وهي اسم موصول وصلته الجملة الفعلية (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ)، والخطاب هنا بصورة الخبر للنبي محمد ﷺ عن إخوانه من الأنبياء والرسل الذين سبقوه، وما آتاهم الله من الكتاب والحكمة والنبوة، فالرسل منهم أوتوا كتبا خاصة بهم، والأنبياء ساروا على نهج الرسل ممن سبقوهم أو كانوا معهم في نفس الفترة الزمنية ولكن في مكان آخر مثل إبراهيم ولوط عليهما السلام، وقد جاءت كلمة الكتاب مفردة لتعبر عن جنس الكتب التي أنزلها الله Y  على رسله مشتملة على التوحيد والشرائع الخاصة بالرسول وقومه، فأصلها واحد (من الله) وأصل الكتب جميعا واحد في اللوح المحفوظ، وكذا القرآن الكريم فهو في اللوح المحفوظ، وهكذا هي مسيرة الأنبياء والرسل وخاتمهم محمد ﷺ، وذِكْر هذه المسيرة الشريفة هو في جزء منه للتخفيف عن النبي ﷺ  في هذه المواجهة مع قومه ومع المشركين عامة، وفي جانب آخر منها هو من الإعجاز القرآني، لأنه لم يقرأ ولم يكتب فمن أين جاء بكل هذا الكم من المعارف التاريخية الحقيقية التي سبقته، والتي لم يستطع أحد من أهل الكتب السابقة (اليهود والنصارى) أن يماري رسول الله ﷺ في أي كلمة أو حتى حرف منها، والنبوة هي المنزلة العظيمة التي اختص الله بها هؤلاء ممن ذكر في هذه الآية أو في آيات أخرى، وهم جميعا أوتوا الحكمة التي هي زادهم في تبليغ رسالة ربهم إلى عباده، ثم يأتي دور التسلية للنبي ﷺ والمواساة له فيما يعانيه مع مشركي قريش ومن لف لفيفهم من المشركين وممن تآمر معهم من أهل الكتاب، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ) والمقصود بكلمة هؤلاء هم كفار قريش وأشباههم إلى يوم القيامة، فكل الأزمان والأمكنة لا تخلو من مثلهم ممن يكذب بالنبوات والكتب، ممن يحارب الله ورسله حتى لو ادَّعى اتباعهم، والمقصود بالضمير (بِهَا) هي النبوة لأنها تشمل ما قبلها من الكتاب والحكمة، وفي مقابلهم فإن من اختار سبيل الحق، وسبيل الله ورسله، فإن الله يوفقهم إلى التمسك  والثبات على هداه (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) وقد جاء الفعل وكَّلنا بصيغة الماضي للدلالة على ثباتهم على الحق لا يحيدون عنه، وقد اختلف المفسرون على من هو المقصود بكلمة (قَوْمًا)، فمنهم من قال هم المؤمنون من المهاجرين والأنصار، ومنهم من قال إنهم الأنبياء الذين جاء ذكرهم سابقا، ومنهم قال إنهم المؤمنون على مدار الزمان، وهو الأرجح كما يقول صاحب التحرير والتنوير وهو ما أميل إليه، فكلمة (قَوْمًا) جاءت نكرة لتشمل كل من تم ذكره سابقا، وهم على الأرجح المقابل لمن يكفر بالله، فهم قوم من عموم الناس، وليسوا الأنبياء أو الملائكة كما قال بعضهم، كذلك فالأنبياء والملائكة لا يجوز في حقهم إلا الإيمان بالله، وقد قال تعالى (… وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) – محمد 38 – ، وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة (لَوْ كانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيّا، لَذَهَبَ به رَجُلٌ مِن فارِسَ، أوْ قالَ مِن أبْناءِ فارِسَ حتَّى يَتَناوَلَهُ). فسواء كانوا من فارس أو من غيرهم من الأمم فإن الله تعالى وكَّلهم بالحفاظ على دينه، والإيمان برسوله محمد ﷺ وبالأنبياء والرسل والكتب من قبله، ومن صفاتهم أنهم ليسوا بكافرين بهم جميعا، ولا جاحدين نعمه عليهم وسيبقون كذلك حتى يأتي وعد الله وهم كذلك.

 

وإلى الآية 37 من سورة الرعد: (وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ)

جاءت هذه الآية في سياق الآية السابقة لها والتي تحدثت عن مواقف أهل الكتاب من القرآن الكريم حيث كانوا فريقين: الأول فرح بنزوله لاشتماله على ما يصدق ما نزل إليهم من التوراة والإنجيل، والثاني وأكثرهم من اليهود كفر ببعض القرآن مما فضح اتباعَهم أهواءَهم وتحريفَهم لكتبهم، ويستوي من كفر ببعض الكتاب بمن كفر بالكتاب كله، فهو من عند الله، والله لا يقبل أن يصدق أحد بآية ويكفر بأخرى.

تبدأ الآية بقوله تعالى (وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ) أي كما أنزل الله الكتب السابقة من صحف إبراهيم إلى الإنجيل، فقد أنزل الله هذا الكتاب عليك يا محمد، فكلها يصدق بعضها بعضا، وكلها يبشر بعضها ببعض، كما أن الرسل يؤمن بعضهم ببعض ويبشر بعضهم ببعض، فكان آخرهم عيسى عليه السلام مبشرا بنبوة محمد ﷺ ورسالته (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ…) – الصف 6 – ، وهذا الكتاب يشتمل على أمرين يبينان حاله (حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ)، وكلٌّ من هاتين الكلمتين تعرب حالا من القرآن، فهو(حُكْمًا) بمعنى الحكمة كما يقول صاحب التحرير والتنوير وهو الأرجح، لأنه يقول الصواب ويحكم بين الناس بالعدل، ويوجههم لكل ما فيه الخير والفلاح في الحال والمآل، وحاله أيضا أنه عربي، بلسان عربي مبين، وفي هذا من الشرف والرفعة للعرب ولغتهم والتي حفظها الله من الزوال بحفظه لهذا الكتاب المبين، وهو ذكر لهم (وَإِنَّهُۥ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْـَٔلُونَ) – الزخرف 44 –، هذا هو كتاب الله وحبله المتين، ثم يأتي التحذير العام للنبي ﷺ وهو المعصوم، وهو الذي يصل بإيمانه بالله إلى عين اليقين، ولكن التحذير ممتد إلى أمته من بعده (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) لئن حدث منك أو ممن تبعك من المؤمنين أن مِلْتَ عن الحق بعد أن جاءك في القرآن الكريم فعلمته وتبين لك حقيقته اتباعا للهوى، وليته كان هوى من عند أنفسكم، بل هي أهواء الآخرين الذين كفروا بكتابكم، أهواء بعض أهل الكتاب،.. لئن حدث ذلك (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) فلن يجد من يفعل ذلك منكم ناصرا من دون الله، وهل هناك؟!!! ولن يجد من دون الله مَن يمنعه مِن عذابه سواء في الدنيا أو في الآخرة، إنه التحذير المرعب: إن الله سيكون بالمرصاد لمن يفعل ذلك. ويا له من كتاب معجز وكأنه يخبرنا عن حالنا اليوم تماما، فها نحن نسمع اليوم عن ديانة جديدة سماها أهلها ومن يدعون إليها بالديانة الإبراهيمية، فاحذروا أيها المؤمنون من الانحراف عن آية واحدة من القرآن الكريم، فكيف بمن يحرف آيات الله ويشتري بها ثمنا قليلا إرضاء لغيره وجريا وراء متاع قليل زائل. فهل هذا من الحكمة؟ وهل هذا من التعقل والرشاد؟؟

 

وإلى الآية 74 من سورة الأنبياء: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ)

جاءت هذه الآية والتي تحدثت مع التي بعدها عن قصة نبي الله لوط u باختصار شديد، بعد أن ذكر القرآن قصة إبراهيم u في 23 آية، ثم جاء ذكر قصة نوح u بعد قصة لوط في آيتين كذلك. ولوط u كان ممن هاجر مع إبراهيم u إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين (فلسطين من أرض الشام)، فأرسله الله إلى أهل قرى سدوم.

تبدأ الآية بالإخبار عن إيتاء لوط حكما وعلما (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)، وبدأ بذكر اسم النبي تشريفا وتكريما له، ولمزيد من الاهتمام به وخبره مع قومه، فكلمة: لوطا مفعول به لفعل محذوف تقديره آتينا، ثم ذكر المولى U أنه آتاه الحكمة وهو الأرجح من أقوال المفسرين كما قال بذلك ابن عاشور والشعراوي، وقيل النبوة وقيل الحكم في القضاء، والقولان الأخيران يقتضيان إيتاء الحكمة والتي أوتيها كل الأنبياء والمرسلين، ومع الحكمة العلم بأمور الدين والدنيا حتى يكون النبي هو المرجع والملاذ للناس في أمور حياتهم ودينهم، وتختصر الآية كل ما دار بين النبي وقومه من دعوتهم إلى التوحيد وترك الشرك، وإلى ترك ما كانوا عليه من الخبائث والتي كان منها الشذوذ (إتيان الرجال) والتي لم يسبقهم بها من أحد من العالمين، ثم كانت المفاصلة والإنذار بالعذاب، ويأذن الله Y له بالخروج من  هذه القرية إلا امرأته، والتي أصابها ما أصاب القوم من العذاب، (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ) فكانت النجاة من العذاب الذي حاق بالمفسدين الكافرين من قومه على ما جاء وصفه في آيات أخرى مفصلا، فما أصابهم من العذاب كان عن استحقاق له (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ)، فإنهم غلب عليهم السوء والفحشاء والخروج عن طاعة الله ورسوله لوط، فهذه صفتهم التي أصروا على البقاء عليها: قوم سَوْء وهو أقوى في المعني من كلمة سُوء، فهم يفعلون السوء ويدعون غيرهم إليه، ويعادون من يأمرهم بالخير، وهذا ما نراه إلى اليوم بين المفسدين في كل مكان، ووصل بهم الأمر أن يقولوا قولة فرعون (…قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) – غافر 29 – ، فما على الدعاة إلى الله والعلماء والمفكرين إلا الثبات على المنهج حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، مستمسكين بالحكمة زادا على الطريق، وسبيلا للدعوة إلى الله.

 

وإلى الآية 79 من سورة الأنبياء: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)

تأتي هذه الآية استكمالا للآية السابقة لها (وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ) حيث وردت روايات عدة في حيثيات هذه القضية التي حكم فيها هذان النبيان في تخاصم رجلين لأحدهما زرع وللآخر غنم، فدخلت الغنم ليلا إلى الزرع وأهلكت فيه كثيرا، فكان حكم داوود u أن يأخذ صاحب الزرع الغنم تقديرا لحجم الخسارة في الزرع، وكان سليمان حاضرا على قول بعض الروايات وهو المفهوم مباشرة من الآية ومن كون الله Y شاهدا على الحكم، وكان لسليمان رأي آخر في الحكم الذي قضى به والده داوود u ، وكان ما زال غلاما لم يصل إلى سن القضاء بين الناس، وتختلف الروايات في الكيفية التي أعرب فيها سليمان u عن رأيه، ولكنها تجمع على الأدب الجم مع نبي الله داوود u.

تبدأ الآية بالعناية الإلهية بهذا الابن البار بوالده من خلال إلهامه الفهم الدقيق لهذه القضية (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ)، فَإنهُمَا من الأنبياء، ولكنَّ الأنبياء يتفاوتون في المكانة والحكمة والعطاء الإلهي (…وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) – الإسراء 55 – فكلٌّ له فضله، وكل له خصائصه، وكل له عطاؤه، فكان الحكم الذي مَنَّ الله به على سليمان بفقهه وقضائه أن ينتفع صاحب الزرع بما تدره الغنم من الألبان والأصواف … وفي نفس الوقت يقوم صاحب الغنم باستصلاح ما فسد من الزرع، فإذا عاد كما كان رُدَّ الغنم على صاحبه والزرع لصاحبه، وهكذا تكون المنفعة متحققة لكلا الطرفين، وكان هو الحكم الأكثر حكمة وصوابية من الحكم السابق، (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ) فقد آتى الله كلا من النبيين الحكمة والعلم، واللذين جاءا نكرة تعظيما لقدرهما، واشتمالا على إمكانية التفاوت فيهما بين الوالد وابنه، فكان نصيب الابن من الحكمة من خلال هذه الآية – والله أعلم – أكبر من نصيب الأب، وهنا يقول المفسرون إن ما قضى به داوود صواب، وما قضى به سليمان أصوب وأكثر رفقا بالمتخاصمين، ولهذا كان المدح لسليمان ولم يكن هناك ذمٌّ لداوود، ومن إكمال النعمة على داوود وبيان مكانته عند الله فقد آتاه الله ما لم يؤت أحدا من النبيين قبله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)، هي القدرة الإلهية المطلقة والفاعلة في القوانين والسنن التي وضعها في الأرض، فهو القادر على خرقها وحده، لا أحد غيره، فإذا كان كل ما في الأرض مسخر للإنسان فقد اختص بعضا من المصطفين الأخيار ببعض العطاءات، فسخَّر لداوود الجبال تسبح معه لله بالكيفية التي يعلمها الله ويفهمها داوود، وعَلِمناها من إخبار الله لنا في كتابه العزيز، وقد تعدَّى ذلك إلى الطير أيضا في ترجيع التسبيح معه (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) – سبأ 10 – ، فما من شيء إلا يسبح بحمده (… وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ…) – الإسراء 44 – ، وكان من زيادة فضل الله على داوود وسليمان أن علَّمهما لغة الطير (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) – النمل 16 –  .

 

وإلى الآية 16 من سورة الجاثية: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)

جاءت هذه الآية في سياق التسلية والتسرية عن الرسول ﷺ في معارضة ومعاندة كفار قريش له، حيث إن السورة مكية وتعرض جانبا من مسار الدعوة في المرحلة المكية، والتي بدأت من الآية السادسة حتى الآية الحادية عشرة، ثم جاءت أربع آيات لتعرض نعم الله على الناس، ودور المؤمنين في العفو عن المشركين أملا في إيمانهم، وتكريسا لمعاني الصبر وتحمل الشدائد في سبيل الله، وأن الله سيفصل بينهم في نهاية المطاف، ثم جاء التعريض ببني إسرائيل في هذه الآية موضوع البحث والآية التي تليها – كصورة مشابهة لصورة مشركي قريش – ، لتأتي الآية الثامنة عشرة ببيان الشريعة الحق الواجب اتباعها من النبي ﷺ والمؤمنين على مر الزمان.

يخبر الله تعالى رسوله ﷺ في هذه الآية عن أحوال بني إسرائيل، (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) فالواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف، وعندما يكون الخبر من الله Y فليس بحاجة للقسم، فهل هناك من هو أصدق من الله حديثا؟! حاشا لله، ولكنه الأسلوب القرآني البليغ الذي يخاطب عامة الناس بما فيهم أهل الكتاب، وبنو إسرائيل هم بنو يعقوب والذي هو إسرائيل، فهم ذريته من الأسباط الاثني عشر، وقصتهم مع يوسف u الواردة في سورة يوسف معروفة، فهم إخوته، وهنا يذكر الله ما أنعم به على هذه الذرية من النعم، والتي هي جزء من فضله عليهم، (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) وبدأ ذلك بأعظم نعمة ينعمها الله على قوم وهي إنزال الكتاب على رسوله إليهم، إنه كلام الله وشريعته وتوجيهاته ومنهجه، إنه الحضور الإلهي معهم في حلهم وترحالهم، وقد تمثل ذلك ابتداء بصحف إبراهيم u ، والتي سار على نهجها أبناؤه إسماعيل وإسحاق ويعقوب (إسرائيل) ويوسف والأسباط (إخوة يوسف)، ثم كانت التوراة والزبور والإنجيل، فأي فضل أعظم من هذا؟!، وزادهم الله من فضله بالحكم: وهو هنا الفهم والفقه والحكمة التي اشتملت عليها هذه الكتب السماوية والتي هي الركيزة الأساس لاستقرار الحكم الذي آتاه الله لبعض ملوكهم وأنبيائهم مثل داوود، وكذلك سليمان الذي آتاه الله ملكا لم يبلغه أحد بعده (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) – ص 35 –، وبالإضافة إلى ما سبق فقد جعل فيهم النبوة، فكان فيهم الكثير من الأنبياء، هذا في الجانب المعنوي، أما في الجانب المادي (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) والتي بدأت منذ عهد يوسف في مصر ثم مع موسى u عندما أنزل عليهم المن والسلوى، وبعد ذلك عندما عاشوا في فلسطين وحكموها فترات عدة، فكانت أرضا مباركة، خيراتها كثيرة، وتأتيها الخيرات من البر والبحر، فكانوا في رغد من العيش ما شاء الله أن يكونوا، ومن مجمل هذه النعم والأفضال عليهم كان التعقيب الأخير (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) من أهل زمانهم كما يقول المفسرون، فقد امتازوا على من عاصرهم بهذه الخصال، وبغيرها مما ذكر في مواضعها في الآيات المشابهة لهذه الآية مثل الآيتين (47 و122 من سورة البقرة) واللتين أُتبعتا بآية تأمرهم باتقاء يوم القيامة وما فيه من الحساب، وكذا الآية 140 من سورة الأعراف عندما عاب عليهم موسى u طلبهم أن يكون لهم إلهٌ كما للمشركين آلهة، وهم بعدُ قد أنجاهم الله من فرعون، ورأوا كيف أغرقه الله أمام أعينهم (قَالَ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِيكُمۡ إِلَٰهٗا وَهُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ)، فأنتم خير من الآخرين بالكتاب والرسالة والحكمة والرزق الذي يسوقه الله إليكم، ولكنهم عاندوا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، فكان الجزاء من الله على ذلك (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) – آل عمران 112 – ، ويجدر القول إن فترات السيادة لم تتجاوز ثمانين عاما في كل مرة كان يتلوها الهزيمة والذلة لبعدهم عن التمسك بالكتاب، والتحريف له، واتباع الهوى، وقتل الأنبياء والبغي والعدوان بغير الحق، فمرة كانت الهزيمة على يد نبوخذ نصر الثاني، وأخرى على يد الرومان، ثم كانت المواجهة الأخيرة بمرحلتيها الأولى مع النبي ﷺ في المدينة، ونحن بانتظار وعد الآخرة، إنه سميع مجيب.

وفي هذه المجموعة فقد وردت ثلاث مرات معرفة بأل التعريف، في معرض رد اتهامات المشركين عموما عن عيسى أو محمد في اتخاذ أله من دون الله، وبيان سنة الله في استبدال المشركين بغيرهم من الناس إن أصروا على الكفر وضرب المثل ببني إسرائيل والمقارنة مع أمة محمد ﷺ بنفس المنة والعطاء، ووردت ثلاث مرات نكرة مع محمد ﷺ  ونهيه عن اتباع الهوى، ولوط عند إرساله لأهل سدوم وبيان ما حاق بهم نتيجة كفرهم، ثم بيان نِعم الله على داوود وسليمان عند سياستهم الناس وإدارة شئونهم.

الكاتب: الدكتور محمود شاكر