الآيات والسور التي وردت فيها كلمة سلطان ومشتقاتها في القرآن الكريم

نعرض الآن المجموعة الثانية والمكونةمن 9 آيات، والتي تدور حول التأييد الإلهي للأنبياء وللمؤمنين وهي: النساء 153، هود 96، إبراهيم 11، الإسراء 80، المؤمنون 45، القصص 35، غافر 23، الدخان 19، الذاريات 38.

والبداية من سورة النساء 153 (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا) في هذه الآية يعرض القرآن لطبيعة اليهود -وهم المقصودون هنا- المعاندة والمكابرة والملتوية في معاملتهم مع الأنبياء، فإن سألوك يا محمد إنزال كتاب من السماء فقد سألوا موسى أن يريهم الله جهارا بأعينهم، وهذا من شدة سوء الأدب مع الله رب العالمين، فصُعقوا من فورهم، ولم يكتفوا بذلك، وبعد عفو الله عنهم عبدوا العجل، وعفا عنهم كذلك، وأمام هذا العناد والإصرار كان العون الإلهي لموسى أن آتاه الله السلطان المبين على هؤلاء القساة القلوب، وهو على أقوال: الآيات المعجزة، أو التوراة أو القوة والقهر والغلبة عليهم وهو الأرجح، حيث قد أمرهم الله أن يقتلوا أنفسهم، وهذا يحتاج ويتطلب القوة المادية القاهرة لليهود من خلال قوة موسى التي يرونها بأنفسهم ويخضعون لها. ولم يكن هذا السلطان جديدا عليهم فقد عرفوه قبل النبوة عندما قتل المصري، وعرفوه بعد بعثته إلى فرعون (ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما)، فرغم أنه قتل نفسا من قوم فرعون فقد عاد إلى مصر رسولا من الله دون خوف أو وجل بهذا السلطان الذي أمده الله به، وجعل له رهبة وخشية حتى عند فرعون وملئه. فهذا التأييد من الله للرسل هوللقيام بأعباء الرسالة في عصمة من الله.

والآية في سورة هود 96 (َوَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) يخبرنا المولى عز وجل أنه قد أرسل كليمه موسى عليه السلام إلى طاغية متجبر متأله مستعبِدٍ لقومه ولبني إسرائيل، ولما أن كان الميزان المادي طاغيا على ذلك المجتمع وفشا فيه من الفنون الكهنوتية الكثير مُستخفِّين بعقول الناس، فكان مما يناسب جوهر المعجزات التي سيحملها إليه موسى من جنس ما ساد ذلك المجتمع، فكانت الآيات كلها (في تسع آيات) مادية وملموسة وحقيقية وقاهرة لفرعون وملئه، وكان التأييد من الله لموسى بالآيات وبالسلطان المبين وكما يقول فيه المفسرون أنه الحجة القاهرة والقوة الغالبة، أو هو القوة والرهبة التي منحها الله لموسى على فرعون وقومه أو كلاهما معا، ومن الملاحظ أنها جاءت نكرة (سلطان) لتحتمل أنواعا من القوة والقهر والغلبة حسبما يقتضيه الموقف والوقت والمكان.

وأما في سورة إبراهيم 11 (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فالحوار هنا بين الرسل وأقوامهم، وسياق الآيات التي سبقت هذه الآية يتضمن استنكار المشركين بشرية الرسل، وأنهم مثلهم يأكلون ويشربون فكانوا يحسدونهم على اجتباء الله لهم من بينهم، ومن هنا صاروا يتساءلون استهزاء وسخرية من الرسل لماذا أرسلكم الله لنا؟ لماذا لم يرسل ملائكة مثلا؟  فكان رد الرسل: ما نحن إلا بشر مثلكم، واختيارنا من بينكم لحمل الرسالة هو تفضُّل من الله على من يشاء من عباده، وليس باجتهاد منا ولا طلب بل باصطفاء الله لنا، وهذا يوجب علينا الأمانة في أداء الرسالة كما جاءتنا، ونحن لا نملك أن نأتي بأي حجة ولا برهان ولا سلطان إلا أن يشاء الله، ونحن في كل أحوالنا نَكِلُ أمورنا إليه، هو مولانا وعليه توكلنا. فالله وحده من يملك السلطان، يمنحه لمن شاء في الحين الذي يشاء بمقتضى حكمته ورحمته بعباده.

   وننتقل إلى الآية 80   من سورة الإسراء  (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) وهذا توجيه من الله تبارك وتعالى إلى حبيبه ورسوله محمد صلوات ربي وسلامه عليه أن يتوجه إليه بدعاء جامع لكل أبواب الخير ومانع من كل أبواب السوء، وهو قوله (رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي أدخلني خير المدخل في كل أمور حياتي فلا يكون إلا خيرا لي، وإذا خرجت من أي أمر فاجعل هذا الخروج أفضله وأخيره لي، ثم أضاف إلى ذلك أن يمده بالسلطان القاهر لأعداء الله وهو أرجح الأقوال وذلك من أجل نشر دين الله، فسأله أن ينصره نصرا مؤزرا على قوى الكفر والشرك في ذلك الوقت فارس والروم، وقد أعطاه الله البشريات في غزوة الخندق عندما بشر أصحابه وهو يضرب الصخر ويقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، ثم الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، ثم الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن.

وتأتي سورة المؤمنون الآية 45 (ثمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) لتؤكد مرة أخرى على ما جاء في الآية 96 من سورة هود المذكورة سابقا، وهنا تتضمن الآية ذكر هارون مع موسى لاقتضاء السياق ذلك، مع العلم أن موسى توجه ابتداء مع هارون إلى فرعون (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي)، وقوله تعالى (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى).

ونصل إلى سورة القصص الآية  35 ( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُون) لتؤكد على التأييد الرباني لموسى، وتقويته وإسناده بأخيه هارون واستجابته سؤاله له بالعون لمواجهة فرعون، وليس هذا فقط بل إن الله سيجعل له سلطانا رهيبا يبث الخوف والرعب في قلب فرعون من موسى وأخيه (فلا يصلون إليكما)، لن يكون لهم سبيل عليكما يا موسى، فأنا معك، أعصمك منه ومن ملئه ومن طغيانه، فامض لما أمرتك، وقم بالرسالة التي حملتك إياها. فمن يكن الله معه فمَن عليه؟!!

وتتواصل الآية 23 من سورة غافر مع قصة موسى وإرساله إلى فرعون بالآيات والسلطان المبين، كما تم بيانه سابقا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ). وفي كل مرة يكون السياق متناسبا مع إبراز جانب من قصة موسى مع فرعون، وذلك لأهمية هذا الصراع وانعكاساته في كل العصور إلى يوم القيامة.

ويستمر السرد القرآني لعرض جانب آخر من قصة فرعون وحواره مع فرعون وملئه، وذلك في سورة الدخان الآية 19 (وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) فلا تتكبر يا فرعون ولا تتعالَ على الله ورسالته إليك، لأن سلطان الله أعظم وأعز من تخيلاتك المريضة بالقوة ومن اغترارك بجنودك، فالقوة الحقيقية هي ما كانت من عند العزيز الجبار، وما أتيتك به من الآيات أجَلُّ وأعظم من أن تواجهها، ولا قِبَل لك بها.

وختام هذه المجموعة من الآيات من سورة الذاريات الآية 35 (وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)   تاتي أيضا في سياق سرد قصة موسى وإرساله إلى فرعون بالسلطان المبين والذي سبق الحديث عنه.

ومن الملاحظ أن آية واحدة كانت عن رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وآية عامة عن الرسل، والآيات السبع الباقية جاءت عن موسى عليه السلام.

3. سلطان الله على المؤمنين: وهذا يتمثل في آية واحدة في سورة النساء 144 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) هنا يَنهَى الله تبارك وتعالى عن موالاة الكفار والمشركين ومن شاكلهم من اليهود والنصارى في معاداة ومحاربة المؤمنين، وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه، أما المعاملة بالمعروف فلا بأس فيها، ويُروى عن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر، وأما عاقبة موالاة الكافرين  في الدين وفي النصرة فهي وخيمة وأليمة في الدنيا والآخرة، فمن يفعل ذلك يجعل لله عليه سلطانا مبينا وهو هنا بمعنى الحجة لإنزال العقاب بكم في الآخرة، وقد يعجلها الله لكم في الدنيا فيجعل الغلبة والقهر لعدوكم عليكم بهذا الذنب الكبير (الموالاة للكفار) والمؤدي بالتأكيد لكسر شوكة المؤمنين وإضعاف صفهم وتوهين قوتهم، وبالتالي تمكين الأعداء من المؤمنين.

بالتأمل في هذه المجموعة من الآيات نرى أنها توثق عنصرا آخر من عناصر المنهج الرباني، إنه وقوع التأييد الرباني عند رسوخ اليقين الإيماني بالله، ومَن أعظم يقينا من الرسل! ومَن أشد ثباتا على اليقين بالله منهم!، ومَن أكثر وثوقا بالمدد الإلهي عند مواجهة الأهوال في سبيل القيام بأعباء الرسالة منهم!، وهنا إذا تحقق كل ذلك جاء النصر من الله وجاء العون من الله، وجاء التأييد بالسلطان، وبالسلطان المبين منه، ومنه وحده صاحب السلطان. ونفس المنهج ينطبق على من سار على نهج الرسل، فهو القانون الرباني الذي لا يتخلف، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من الرسل في مواقف محددة عندما حدث الخلل عند أحدهم أو في صفهم. فهذا يونس عليه السلام (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) فماذا كانت النتيجة؟ (فالتقمه الحوت وهو مليم)، أما الصف المؤمن ورغم وجود خير البشر بينهم في معركة أحد (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) فماذا كانت العاقبة؟ إنها الهزيمة، وأن تكسر رباعية النبي الكريم. فما أحرانا اليوم أن نتدبر هذه السنن والنواميس التي لا تحابي أحدا، وأن نأخذ العبر منها حتى تتحقق لنا الكرامة والعزة التي غابت عنا لردح من الزمن.

ثانيا: منسوبة إلى المؤمنين: النساء (91)

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ۚ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)

تأتي هذه الآية في سياق الحديث عن فئة من المنافقين، وهم الذين كانوا يقيمون في مكة وجوارها، حيث كانوا يترددون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي مكة، يظهرون الإسلام أو الموادعة والوقوف على الحياد للنبي حتى يأمنوا جانبه، فإذا عادوا إلى ديار الكفر عادوا إلى الكفر مرة أخرى وأظهروا موالاتهم فيأمنوا جانبهم، وقد وصف القرآن حالتهم هذه بقوله (أُرْكِسُوا فِيهَا ۚ) بمعنى انتكاستهم إلى حال الكفر والشرك وكأنهم قد انقلبوا على أعقابهم، ويكون الحكم فيهم قتلهم حيث وجدهم المسلمون إذا لم يعتزلوا المسلمين ويسالموهم بعد هذا التقلب من الإسلام إلى موالاة المشركين. ويأتي التعقيب على هذا الحكم وهذا الموقف النهائي ممن هذا حاله (وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) فقد جعل الله لكم عليهم الحجة البالغة في حال قتلهم بسبب أفعالهم القبيحة التي يصرون على المواظبة عليها، وهذا هو الراجح من الأقوال فلا مَلام عليكم ولا عتاب من أحد، ويمكن استنتاج أنه مع الحجة البالغة، فهناك الرهبة التي يوقعها الله في قلوب هذه الفئة من المنافقين.

ثالثا: منسوبة لولي القتيل: الإسراء (33)

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا).

حقا إنه العدل الإلهي والذي هو من أهم قواعد المنهج القرآني الذي قامت به السماوات والأرض، وهو اسم من أسماء الله الحسنى (الحكم العدل). فالله جل وعلا قد نهى عن قتل النفس التي حفظها وصانها وحرَّم قتلها إلا بالحق، والحق هو ما شرعه في كتابه الكريم وسنة نبيه، وما عدا ذلك فهو القتل ظلما وعدوانا. وفي حال البغي والظلم والوصول إلى إزهاق النفس بغير الحق، أي أن هذه النفس قُتلت مظلومة فالله جعل لولى المقتول سلطانا، هذا السلطان هو قوة الشريعة الإلهية المنزلة في كتابه العزيز والتي تمنح الولى واحدا من ثلاثة أمور: المطالبة بالقصاص والمتمثل بقتل القاتل أو قبول الدية المشروعة أو العفو عن القاتل. وهو في هذه الخيارات الثلاثة له كامل الحرية في أن يختار بينها، ولا يجوز لأي كان أن يمارس عليه أي نوع من أنواع الإكراه حتى يتنازل عن حقه الذي منحه له الله تعالى من خلال هذا السلطان المشروع في كتاب الله. وهي يأتي الميزان العادل، فليس لولي المقتول أن يتجاوز الحدود، فيطالب بقتل أكثر من القاتل أوغير القاتل، هذا هو منهج العدل الذي تستقيم به الحياة ويأمن به الناس (ولكم في القصاص حياة).

 رابعا: منسوبة للكافرين: يونس (68)، إبراهيم (10)، الكهف (15)، الصافات (30، 156)، الطور (38) والحاقة (29).

تأتي هذه المجموعة من الآيات في إطار تفنيد  مزاعم المشركين في أن لله شركاء أو ولد أو أن الملائكة إناث، أو استغرابهم أن تكون الرسل من البشر، بالإضافة لنفي المستكبرين امتلاك أي قوة أوإجبار على أتباعهم من المستضعفين والذين ساروا في دروب المشركين والكفر، بل وتأكيد ذهاب ما كان لهم في الدنيا من أسباب القوة التي توهموا أنها تنفعهم عند لقاء الملك القهار يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة.

فكما تم التأكيد مسبقا فالسلطان لله ولم يمنحه للمشركين بمعنى القوة والقهر ولا بمعنى الحجة والبرهان ولا يستطيعون الوصول إلى ذلك، فهم أحقر على الله من هذا، فكل ادعاءاتهم وتجبرهم هو في الحقيقة لا شيئ أمام سلطان الله، ومصيرها كلها إلى زوال يوم الحساب.

والأن مع الأية 68 من سورة يونس (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا ۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون)َ ما أجرأه من افتراء على الله العلي الغني القدير، الخالق البارئ المصور، إنه بهتان مبين تهتز له السماوات والأرض، فهل يحتاج رب الأرباب إلى ولد؟! سبحانك ربي!!! هل تعلمون ما تقولون وما تدعون؟ إِنْ في هذا المقام للنفي، وللتأكيد على النفي جاء بكلمة مِن، وكلمة سلطان جاءت نكرة لمزيد من التأكيد على عدم وجود أي دليل ولا حتى شبهة دليل على هذا البهتان العظيم، والتعقيب الأخير يبين المنهج الرباني أنه لا ينبغي لأحد أن يقول شيئا دون دليل أو برهان، فإن كان عندك دليل فتكلم وإلا فابحث عنه وتفكر ثم اختر طريقك على بينة، لا على الظن والبهتان.

أما الآية 10 من سورة إبراهيم (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) وتبدأ هذه الآية بقول الرسل لأقوامهم كيف تشكُّون في وجود الله ووحدانيته، ألم تتفكروا في هذا الإبداع الجميل للكون من  حولكم وكل ما فيه من الآيات البينات، ومع هذا فقد أرسلنا إليكم رسلنا لهدايتكم سبيل الرشاد وترك ما أنتم عليه من تقليد الآباء والأجداد في الكفر والآثام، وليغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم من المصير الأليم في الآخرة، ولكنه العناد والجحود الذي طمس بصيرتهم وختم على قلوبهم وأصمَّ أسماعهم، إنهم اختاروا طريق الضلال رغم أن الله تعالى قد هداهم النجدين، ومنحهم حرية الاختيار، فماذا كانت النتيجة؟ لقد ساء أدبهم مع الرسل الكرام، ومن خلال مقاييسهم الملتوية والخاطئة قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا، ولن نؤمن لكم حتى تأتونا بسلطان قاهر يحملنا ويدفعنا للإيمان رغما عنّا، فنحن لن نختار الإيمان من ذات أنفسنا. ولكن اقتضت إرادة الله أن تكون هذه الحياة الدنيا هي دار الاختبار (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ويكون الجزاء الجنة للمؤمن والنار للكافر، ولو أراد الله تبارك وتعالى لجعل الناس أمة واحدة، فأمره بين الكاف والنون، ولكن له الأمر من قبل ومن بعد وإليه النشور.

وتأتي سورة الكهف الآية 15 (هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)  هذا جزء من أقوال أهل الكهف عن قومهم الذين يعبدون ألهة أخرى، ويتركون دين التوحيد دون حجة أو برهان قاطع دامغ، إنه لظم فظيع وجرم عظيم للنفس أن تشرك بالله ما ليس لها به علم ولا دليل، إنه الكذب الصريح والبهتان المرفوض. وهو نفس المنهج الرباني الذي يعتمد الدليل والبرهان على أي أمر وأي اعتقاد، فما بالك بأصل الإيمان بالله أو بآلهة من دونه. ساء ما يفتريه المشركون.

ثم تعرض سورة الصافات الآية 30 (وَمَا كَانَ لنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ) للحوار الذي يدور بين المستكبرين وأتباعهم من المشركين، وكيف يتبرأ الكبراء من مستضعفيهم وجنودهم ومن جاراهم في الفجور والكفر ومعاداة الرسل والمؤمنين، فيقول المستكبرون: نحن لم نجبركم على الكفر ونقهركم على سلوك طريق الضلال، بل أنتم كنتم شركاءنا في الطغيان، وحق علينا قول ربنا أننا جميعا مشتركون في العذاب اليوم.

أما الآية 156 من نفس السورة (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ) فتأتي في سياق التحدي السافر للذين ادعوا وافتروا على الله الأكاذيب أن الله اصطفى البنات على البنين، وأن لله ولدا (سبحانه وتعالى عما يصفون) فأين البرهان وأين الدليل؟ فهل لكم سلطان على افتراءاتكم؟ إذا كان عندكم كتاب من الله فأتوا به؟!!! فأنتم كاذبون لا تملكون دليلا فكيف تملكون سلطانا؟!!!!

ثم تأتي الآية 38 من سورة الطور(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ۖ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) بتحدٍّ جديد للمشركين، وذلك بعد أن عرض القرآن الكريم لبعض التخرصات التي يتداولها كفار مكة عن الرسول الأكرم باتهامه مرة بالشعر، ومرة بأنه يأتي بالقرآن من عنده، وبالتساؤل عن خلق السماوات والأرض و ما فيهما من خزائن الله، والتحدي هو: إن كنتم تدعون كل ذلك وأن محمدا ليس صادقا في ما يقول عن وحي السماء، فقوموا أنتم واجمعوا كل قوتكم وإمكاناتكم واستمعوا لخبر السماء وهاتوا دليلكم على صدق دعاواكم! وأنَّى لهم ذلك!.

فالوحي من الله لا يكون إلا برسول الوحي الكريم جبريل على قلب الأمين عليه محمد البشير النذير.

ثم يكون ختام هذه المجموعة من الآيات بسورة الحاقة 29 (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) يا لها من آية فاجعة للمشركين تأتي ضمن سياقٍ يصور حال الكفار يوم القيامة وقد أوتوا كتبهم بشمالهم!! إنها النهاية التي لا مرد لها، وقد رأوا الآن الحقيقة التي طالما أنكروها، فلم تغن عنهم أموالهم التي جمعوها ظلما وعدوانا من المستضعفين، ولم ينفعهم الجاه والقوة والسلطان الذي حازوه واستخدموه لاستعباد العباد وللتجبر على الناس، فكل ذي مال يبحث عن السلطان أويتقرب منه ليزيد من ماله بدون وجه حق، وكل ذي سلطان يستغله لجمع الأموال ظانين أن ذلك ينفعهم، وعند تطاير الصحف واستلامهم إياها بشمالهم تجيء الحسرة والندامة، وهم قد قالوها بلسان مَن تيقن الهلاك: هلك عني وذهب ما كان لي من جاه ومال وقوة وحانت ساعة الحقيقة، وعندها يقول الجبَّار (خذوه فغلوه) لقد صدر الحكم العدل من الله أن خذوه إلى الجحيم وبئس مثوى الظالمين.

خامسا: منسوبة للشيطان: إبراهيم ( 22)، الحجر (42)، النحل (99، 100)، الإسراء (65) وسبأ (21)

تتحدث هذه الآيات الكريمة عن العلاقة بين الشيطان وبين بني آدم، وما يقوم به من إغواء ووسوسة ليضلهم عن سبيل الله. وقد بدأت هذه مع أبينا آدم منذ أن وسوس له فأكل من الشجرة، والنتيجة الهبوط من الجنة إلى الأرض.

ومجمل الآيات أنَّ كلمة سلطان التي وردت فيها لا تعني بأي حال القوة القاهرة التي تجبر الناس على الشرك بالله  ومعصيته، فهذا ليس في مقدور الشيطان، لأنه كما ذكرت سابقا فالله تبارك وتعالى هو المتفرد بالسلطان ويمنحه كما يشاء لمن يشاء، وكل ما يستطيعه الشيطان هو الوسوسة والغواية والدعوة إلى طرق الشر والفساد والإشراك بالله، وأما بنو آدم فهم أمام هذه الوسوسة قسمان: قسم اختار طريق الرشاد والهداية والسير على طريق الأنبياء والرسل من الهدى والإيمان، وقسم آخر -وهم الأكثرون- (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) اختار طريق الضلال والفساد والكفر والشرك. فالقسم الأول لم يجعل الله للشيطان عليهم سبيلا، فعصمهم وكفاهم وصبروا على الأشواك التي تواجههم في ثباتهم على الدين والإيمان بالله ورسله، أما القسم الثاني فقد استجاب لغوايات الشيطان ودعوته لهم بالضلال والكفر والشرك بالله.

ومع الآية 22 من سورة إبراهيم (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

يا له من موقف رهيب، ومن مشهد تقشعر منه الأبدان لمن كان له قلب أو عقل يفكر به أو يتخيله، فهذا المشهد يصور حال الكفار مع الشيطان يوم القيامة، وبعد أن تم الحساب وقُضي بين الناس بالحق، فأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، يتوجه الكفار إلى الشيطان أن ينقذهم مما آلوا إليه من العذاب، ويكون الجواب من الشيطان أنه لا يملك لهم شيئا، فاليوم هو يوم الحق والصدق، فقد زالت الأوهام والوعود الكاذبة التي قطعْتها لكم، فرسلكم دعوكم للحق والتوحيد فأبيتم وعصيتم، ودعوتكم لعصيانهم وإلى معصية الله فأجبتم دعوتي واتبعتم وساوسي، وكان هذا عن اختيار منكم، فأنا لا ولم أملك القوة لإجباركم على الكفر بالله، فلا مجال أمامكم للَّوم والعتاب لي، بل لوموا أنفسكم على ركونكم إلي، وإلى كبرائكم الذين أضلوكم. ثم يزيدهم الشيطان يأسا بعد يأس وغما بعد غم، فيقول لهم إنني قد كفرت بالله منذ خلق آدم وعصيت ربي -على أحد الآراء- أو أنني كفرت بإشراككم إياي مع الله، ونحن جميعا سواء في الكفر وفي المآل، ونحن جميعا في العذاب الأليم في النار، فالمصير النهائي للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله هو جهنم وبئس المصير.

وتأتي سورة الحجر 42 (إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) وفي سياق الحوار بين رب العزة وإبليس (الشيطان) وبعد أن أنظره الله إلى يوم القيامة، و قول أبليس إنه سيعمل على إغواء الناس والتزيين لهم ليصدهم عن سبيل الله باستثناء عباد الله المخلَصين، فيكون الرد القاطع من الله العزيز الجبار، إنه ليس لك سبيل على عبادي، كل عبادي، إلا من اختار أن يتبعك ويسير على ضلالاتك وإغوائك ووساوسك وتزيينك لهم طرق الضلال (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

وتؤكد سورة النحل (99) في سياق آخرعلى نفس المعنى السابق (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون) فالمؤمنون الذين ثبتوا على إيمانهم وتوكلوا على ربهم فهو عاصمهم من الشيطان وحبائله ومكائده، فإنهم يستعيذون بالله منه ومن كل شياطين الجن والإنس، فلا يملك من أمره تجاههم شيئا، إنه التأكيد بصيغة الفعل الماضي على أنه حقيقة ماضية إلى يوم القيامة لكل من توكل على الله بالاستعاذة من كيد الشيطان فقد حماه ومنعه وعصمه، فلا سبيل له على المؤمنين الذين يسيرون على درب الرسل.

وتؤكد الآية التالية من سورة النحل (100) (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) بعد إقرار حقيقة أن لا سلطان على المؤمنين، فإنَّ سلطانه الإغوائي وليس القهري يكون فقط على من اختار عن قصد وإصرار أن يكون من أتباع الشيطان، سلطانه فقط على من قرر أن يتولاه، فيطيعه ويأتمر بكل مايطلبه منه من الإفساد في الأرض بكل أنواع الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري، فكل ما نراه من الدمار والهلاك هو من وساوس شياطين الجن والإنس الذين تولوا الشيطان واتبعوا سبله.  والذين هم به مشركون هي على قولين: إما: الذين يشركون بالله أو الذين يشركون باتباعهم الشيطان وتكون الهاء في كلمة به تعود على الشيطان، أي أنهم أشركوا مع الله الشيطان لأنهم قد تولوه من دون الله. سواء هذا أو ذاك فالكفر سواء والجزاء سواء.

وتأتي سورة الإسراء 65 (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا) وفي سياق جانب آخر من الحوار بين الله عز وجل وبين الشيطان وفي تحدٍ واضح وجلي في الآية التي سبقت هذه الآية (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) فافعل كل ما تستطيع واجمع كل شركائك وجنودك من الجن والإنس لتغوي الناس، فأنت لا تملك أن تقهر الناس على الكفر وليس لك قوة سوى الوسوسة، طالما أنهم يتجهون إلي لأعصمهم منك ومن كل ما تملك، فمن توكل علي حفظته وعصمته ومنعته، ولن يكون لك عليه من سبيل، أما من وكل نفسه لنفسه واستغنى عني بنفسه تركته، ولن تنفعه نفسه شيئا، أما من تولاك فأنت وهو في المصير المشترك في الآخرة وذلك هو الخسران المبين.

ونختم بسورة سبأ 21 (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) وفي هذه الآية يوجز القرآن السبب الرئيس لهذا القدر من السلطان الذي منحه الله للشيطان والذي لا يتجاوز الوسوسة والإغواء، فهو على الحقيقة لا يملك بحال من الأحوال القوة القاهرة على الناس ليردهم عن دينهم وعن الإيمان بخالقهم. إنها فقط وفقط الدعوة إلى الكفر وتزيينه لهم؛ فالعلة وراء ذلك هي الاختبار للناس ليعلم الله من يؤمن بالله متمثلا بإيمانه بالآخرة ممن يكفر بها. فالإيمان بالآخرة يعكس جوهر الدين وحقيقته لأنها جزء أساسي من الإيمان بالغيب، ولأنها الحياة الحقيقية والتي يتحقق فيها العدل الإلهي والفصل بين الناس (والوزن يومئذ الحق) فإما إلى جنة وإما إلى نار. وبعد ذلك وقبل ذلك فالله محيط بكل خلقه، حفيظ على كل شيء فلا يعزب عنه شيئ ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).

سادسا: الجن والإنس: الرحمن (33)

(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)

إنه الخطاب المتوجه إلى الثقلين: الجن والإنس، إنه التحدي في أمر عظيم، وهنا قدَّم الجن على الإنس لأن موضوع التحدي مما تستطيعه الجن أكثر من الإنس، إنه النفاذ من أقطار السماوات والأرض، والمقصود بالأقطار رحابهما الواسعة الممتدة (وإنا لموسعون) وهذا التحدي جاء بالفعل المضارع دلالة على استمرارية الأمر إلى قيام الساعة على الرأي الذي يقول أن هذا التحدي قائم في الحياة الدنيا -ونستمر مع هذا الرأي- ويكون الجواب انكم لا تستطيعون ذلك إلا بسلطان، وإذا تأملنا الآية فهي تتحدث عن (السماوات) وليس السماء الدنيا فقط، وأقصى ما فعلته الجن (بسلطان من الله) هو قولهم في سورة الجن (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) لقد ذهب السلطان بأمر الله، فقد بُعِثَ محمد بالحق، وجاءه وحي السماء، فلا مجال بعد الآن لأي استماع، والشهاب من الله فمن ذا الذي يستطيع الهرب منه. وهنا  لن يستطيع أحد النفاذ من هذه الأقطار إلا بسلطان من الله وذلك بسبب أن هناك ما ينتظر من يفكر بالمحاولة، وجاء ذلك في الآية التالية (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) والله تبارك وتعالى أعطى هذا السلطان لبشر واحد فقط في هذه الدنيا، إنه الحبيب المصطفى محمد يوم الإسراء والمعراج، فقد بلغ ما لم يبلغه أحد (عند سدرة المنتهى)،

وهناك من المفسرين من رأى أن هذا التحدي يكون يوم القيامة.

وعلى كلا الرأيين فلا يملك السلطان إلا خالق الأكوان والثقلين (والسلطان هنا هو القوة والقدرة).

سابعا: للهدهد: النمل (21)  (لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)

المقصود ب (سلطان مبين) هنا هو عذر قوي واضح مقبول ومعقول (البرهان والحجة القوية). والسياق هنا في قصة نبي الله سليمان وقد آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحدا غيره، وعندما تَفَقَد الطير وجد أن الهدهد غير موجود، فتوعده بالعذاب الشديد أو الموت ذبحا، وقد جاءت نون التوكيد المشددة في الأمرين العذاب والذبح وكأنها تصور لنا شدة غضب سليمان من هذا التغيب من طرف الهدهد دون سابق إنذار، والمخرج الوحيد له هو أن يأتي بالبرهان والحجة القوية كعذر مقبول من سليمان، ولم يطل الأمر فقد جاء، وجاءه بالعذر المقنع، والذي قبله منه ونجا مما توعده به.

ملاحظة أخيرة:

جاءت كلمة سلطان بصيغة الفعل مرتين: مرة الفعل الماضي ومرة الفعل المضارع، وفي المرتين جاءت بمعنى القوة والغلبة والقهر.

 المرة الأولى: جاءت في سورة النساء الآية 90 (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلً) التسليط هنا من الكفار على المؤمنين هو على قول القرطبي إما عقوبة ونقمة من الله على المؤمنين عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا، وإما تمحيصا للذنوب (وليمحص الله الذين آمنوا). وصيغة الماضي هي للتأكيد على أن هذا واقع وحادث طالما وقعت الأسباب في أي زمان أو مكان.

والمرة الثانية: جاءت في سورة الحشر الآية 6 (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إنها القاعدة الإلهية والحقيقة المستمرة، فالله سبحانه وتعالى يمد رسله وأنبياءه بأسباب السلطان والقوة والعصمة والحجة الدامغة والبرهان المبين، كل ذلك حسب مشيئته وما يناسب كل نبي، وكما سبق أن تم تبيانه في الآيات السابقة.

وهذه الآية تتحدث عن قصة بني النضير وما أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الفيء، خالصا له دون حق للمؤمنين في هذا الفيء، وهو الذي يملك وحده التصرف فيه كما يراه مناسبا بإلهام من الله.

هذا ما فتح الله به علينا، فما كان من خطأ فمن نفسي، وما كان من صواب فبتوفيق الله وفضله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأستاذ: محمود البرهان